عيسى فى ناحية المشرق بقوله : (إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا) [مريم : ١٦].
واليهود اختاروا قبلتهم ناحية المغرب ؛ لأن موسى عليهالسلام كان بناحية المغرب لما أعطى الرسالة وكلمه ربه ؛ كقوله : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) [القصص : ٤٤].
وأما أهل الإسلام فإنما اختاروا الكعبة ـ شرفها الله ـ قبلة بالأمر ، لا اتباعا لهواهم.
والعقل يوجب أن تكون الكعبة قبلة ؛ إذ هى مقصد الخلق من آفاق الدنيا ، فلما احتيج فى الصلاة إلى التوجه إلى وجه كان أحق ذلك الموضع الذى جعل للخلق مقاصد أخرى (١).
ثم قوله تعالى : (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ).
أخبر ـ عزوجل ـ رسوله : أن ليس فى وسعك إرضاء هؤلاء ؛ لاختلافهم فى الدعاوى فى الملل.
فإن قيل : كيف نهى رسوله عن اتباع ملتهم على علم منه : أنه لا يتبع؟
قيل : لأن العصمة لا تزيل المحنة ، ولا تدفعها ، بل المحنة إنما تقع فى العصمة لوجهين :
أحدهما : أن عصمته لما مضى لا توجب عصمته فى الحادث.
والثانى : أن أحق من ينهى عن الأشياء من أكرم بالعصمة ؛ إذ على زوال النهى يرتفع عنه جهة العصمة ؛ لأنه يصير برفع النهى مباحا.
فلهذا دل القول على النهى عما فيه إرضاؤهم ـ وإن كان فى الأصل معصوما عنه ـ وبالله التوفيق.
وفى إزالة الأمر والنهى إزالة فائدة العصمة ؛ لأن العصمة : هى أن يعصم فى الأمر حتى يؤديه ، وفى النهى ، حتى ينتهى عنه ، وبالله التوفيق.
وقوله : (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ).
قيل : إن دين الله ـ الذى اختاره أهل الإسلام ؛ بالأمر ، واتباع الآيات ، والحجج ـ هو الدين ، لا كما اختار أولئك بهوى أنفسهم ، واستقبال الآيات والحجج بالرد ، والإنكار ، والمعاندة.
ويحتمل : أن يكون الخطاب فى قوله : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ)
__________________
(١) فى أ : مقصدا آخر.