نعمتان حوتا نعما ، كقوله عزوجل : (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً)(١) وهما نعمتان حوتا نعما لا تحصى.
ثمّ غلّظ عليه القول بقوله عزوجل : (بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ) كقول القائل : بسيفي تقاتلني ، وبرمحي تطاعنني ، وهذا أبلغ في القبح وأشنع.
فقوله عزوجل : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) كانت كلمة متشابهة ، أحد وجوهها أنّه يتصوّر عند الجاهل أنّ الله عزوجل يستشير خلقه في معنى التبس عليه ، ويتصوّر عند المستدلّ إذا استدلّ على الله عزوجل بأفعاله المحكمة وجلالته الجليلة أنّه جلّ عن أن يلتبس عليه معنى أو يستعجم عليه حال ، فإنّه لا يعجزه شيء في السماوات والأرض ، والسبيل في هذه الآية المتشابهة كالسبيل في أخواتها من الآيات المتشابهات ، أنّها ترد إلى المحكمات ممّا يقطع به ومعه العذر للمتطرّق إلى السفه والإلحاد.
فقوله : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) يدلّ على معنى هدايتهم لطاعة جليلة مقترنة بالتوحيد ، نافية عن الله عزوجل الخلع والظلم وتضييع الحقوق وما تصحّ به ومعه الولاية ، فتكمل معه الحجّة ، ولا يبقى لأحد عذر في إغفال حقّ.
وأخرى أنّه عزوجل إذا علم استقلال أحد من عباده لمعنى من معاني الطاعات ندبه له حتّى تحصل له به عبادة ويستحقّ معها مثوبة على قدرها ما لو أغفل ذلك ، جاز أن يغفل جميع معاني حقوق خلقه أوّلهم وآخرهم ، جلّ الله عن ذلك. فللقوّام بحقوق الله وحقوق خلقه مثوبة جليلة متى فكّر فيها مفكّر عرف أجزاءها ، إذ لا وصول إلى كلّها لجلالتها وعظم قدرها. واحد معانيها وهو جزء من أجزائها أنّه يسعد بالإمام العادل النملة والبعوضة والحيوان أوّلهم وآخرهم بدلالة قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ)(٢). ويدلّ على صحّة ذلك قوله عزوجل في قصة نوح عليهالسلام : (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً* يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً)(٣) ، ثمّ من المدرار ما ينتفع به الإنسان وسائر الحيوان ،
__________________
(١) لقمان : ٢٠.
(٢) الأنبياء : ١٠٧.
(٣) نوح : ١٠ و ١١.