على غير قرار ، وأقامها بغير قوائم ، ورفعها بغير دعائم ، وحصّنها من الأود والاعوجاج (١) ومنعها من التّهافت والانفراج (٢) ، أرسى أوتادها (٣) ، وضرب أسدادها ، واستفاض عيونها ، وخدّ أوديتها ، فلم يهن ما بناه (٤) ، ولا ضعف ما قوّاه.
هو الظّاهر عليها بسلطانه وعظمته ، وهو الباطن لها بعلمه ومعرفته ، والعالى على كلّ شىء منها بجلاله وعزّته ، [و] لا يعجزه شىء منها طلبه ، ولا يمتنع عليه فيغلبه ، ولا يفوته السّريع منها فيسبقه ، ولا يحتاج إلى ذى مال فيرزقه.
خضعت الأشياء له ، وذلّت مستكينة لعظمته ، لا تستطيع الهرب من سلطانه إلى غيره فتمتنع من نفعه وضرّه ، ولا كفء له فيكافيه ، ولا نظير له فيساويه ، هو المفنى لها بعد وجودها ، حتّى يصير موجودها كمفقودها.
وليس فناء الدّنيا بعد ابتداعها ، بأعجب من إنشائها واختراعها! وكيف [و] لو اجتمع جميع حيوانها من طيرها وبهائمها ، وما كان من مراحها وسائمها (٥)
__________________
(١) الاعوجاج : عطف تفسير على الأود
(٢) التهافت : التساقط قطعة قطعة ، والانفراج : الانشقاق
(٣) الأوتاد : جمع وتد ـ بزنة كتف ـ والأسداد : جمع سد ـ بفتح السين وضمها ـ والمراد بها الجبال. وقال الرازى «وفى الديوان : وقال بعضهم : السد ـ بالضم ما كان من خلق اللّه ، وبالفتح : ما كان من عمل بنى آدم» اه و «خد» أى : شق
(٤) يهن : من الوهن ، بمعنى الضعف
(٥) مراحها ـ بضم الميم ـ اسم مفعول من «أراح الابل» إذا ردها إلى المراح ـ بالضم ـ أى : المأوى ، والسائم : الراعى : يريد ما كان فى مأواه وما كان فى مرعاه