صراطها. وكأنّها قد أشرفت بزلازلها ، وأناخت بكلاكلها (١) وانصرمت الدّنيا بأهلها ، وأخرجتهم من حضنها ، فكانت كيوم مضى ، أو شهر انقضى ، وصار جديدها رثّا (٢) وسمينها غثّا ، فى موقف ضنك المقام ، وأمور مشتبهة عظام ، ونار شديد كلبها (٣) ، عال لجبها ، ساطع لهبها ، متغيّظ زفيرها ، متأجّج سعيرها ، بعيد خمودها ، ذاك وقودها ، مخيف وعيدها ، غمّ قرارها (٤) ، مظلمة أقطارها ، حامية قدورها ، فظيعة أمورها «وَسِيقَ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى اَلْجَنَّةِ زُمَراً» قد أمن العذاب ، وانقطع العتاب ، وزحزحوا عن النّار ، واطمأنّت بهم الدّار ، ورضوا المثوى والقرار ، الّذين كانت أعمالهم فى الدّنيا زاكية ، وأعينهم باكية ، وكان ليلهم فى دنياهم نهارا تخشّعا واستغفارا ، وكان نهارهم ليلا توحّشا وانقطاعا (٥) فجعل اللّه لهم الجنّة مآبا ، والجزاء ثوابا ، وكانوا
__________________
(١) الكلاكل : الصدور ، كناية عن الأثقال
(٢) الرث : البالى ، والغث : المهزول
(٣) الكلب ـ محركا ـ : أكل بلا شبع ، واللجب : الصياح ، أو الاضطراب ، والتغيظ : الهيجان ، والزفير : صوت توقد النار ، وذكت النار : اشتد لهيبها
(٤) «غم» صفة من «غمه» إذا غطاه ، أى : مستور قرارها المستقر فيه أهلها ويروى «عم» بالعين المهملة ، من «عمى»
(٥) لا يريد من التوحش النفرة من الناس والجفوة فى معاملتهم ، بل يريد عدم الاستئناس بشؤون الدنيا والركون إليها.