فقد رأيت من كان قبلك ممّن جمع المال ، وحذر الإقلال ، وأمن العواقب ، طول أمل (١) واستبعاد أجل ، كيف نزل به الموت فأزعجه عن وطنه ، وأخذه من مأمنه ، محمولا على أعواد المنايا ، يتعاطى به الرّجال الرّجال حملا على المناكب ، وإمساكا بالأنامل (٢) أما رأيتم الّذين يومّلون بعيدا ، ويبنون مشيدا ، ويجمعون كثيرا ، كيف أصبحت بيوتهم قبورا ، وما جمعوا بورا ، (٣) وصارت أموالهم للوارثين ، وأزواجهم لقوم آخرين ، لا فى حسنة يزيدون ، ولا من سيّئة يستعتبون؟! فمن أشعر التّقوى قلبه برّز مهله (٤) وفاز عمله ،
__________________
فكلما رأيت حيا زعمت أنك باق مثله
(١) طول : مفعول لأجله ، أى : كان منه ذلك لطول الأمل الخ
(٢) أعواد المنايا : النعش ، و «يتعاطى به الرجال الرجال» أى : يتداولونه : تارة على أكتاف هؤلاء ، وتارة على أكتاف هؤلاء. وقد فسره بما بعده من قوله «حملا على المناكب وإمساكا بالأنامل»
(٣) المشيد ـ بوزن المبيع والمعيب ـ اسم مفعول من «شاده» إذا بناه بالشيد ، وهو الجص ، وفى التنزيل : «وَقَصْرٍ مَشِيدٍ» والبور : الفاسد الهالك ، و «قوم بور» أى : هلكى ، وقال اللّه تعالى : «وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً» والبور : جمع ، واحده بائر ، مثل حائل وحول
(٤) «يستعتبون» رواه قوم بالبناء للمجهول ، ومعناه حينئذ أنهم لا يعاتبون على فعل سيئة صدرت منهم أيام حياتهم ، أو لا يستطيعون وهم موتى أن يفعلوا ما يعاتبون عليه. ورواه قوم بالبناء للمعلوم ، ومعناه حينئذ مأخوذ من قولهم «استعتب فلان» إذا طلب أن يعتب ، أى : يرضى ، وقوله «فمن أشعر التقوى قلبه» معناه جعلها ملازمة له كما يلازم الشعار الجسد ، وتقول : «برز الرجل على أقرانه» أى : فاقهم. والمهل : التقدم فى الخير ، أى : فاق تقدمه إلى الخير على تقدم غيره