ومنها : وإنّما الدّنيا منتهى بصر الأعمى (١) لا يبصر ممّا وراءها شيئا ، والبصير ينفذها بصره ويعلم أنّ الدّار وراءها ، فالبصير منها شاخص ، والأعمى إليها شاخص ، والبصير منها متزوّد ، والأعمى لها متزوّد.
ومنها : واعلموا أن ليس من شىء إلاّ ويكاد صاحبه أن يشبع منه ويملّه ، إلاّ الحياة فإنّه لا يجد له فى الموت راحة (٢) وإنّما ذلك بمنزلة الحكمة الّتى هى حياة للقلب الميّت ، وبصر للعين العمياء ، وسمع للأذن الصّمّاء ، ورىّ للظّمآن ، وفيها الغنى كلّه والسّلامة : كتاب اللّه تبصرون به ، وتنطقون به ، وتسمعون به ، وينطق بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض ، ولا يختلف فى اللّه ، ولا يخالف بصاحبه عن اللّه.
قد اصطلحتم على الغلّ فيما بينكم (٣) ونبت المرعى على دمنكم ، وتصافيتم
__________________
(١) يشير إلى أن من يقصر نظره على الدنيا فكأنه لم يبصر شيئا ، فهو بمنزلة الأعمى
(٢) «لا يجد فى الموت راحة» حيث لم يهيىء من العمل الصالح الباقى ما يكسبه السعادة بعد الموت. قال : «وإنما ذلك» أى : شعور الانسان بخيفة ما بعد الموت ، بمنزلة حكمة واعظة تنبهه من غفلة الغرور ، وتبعثه إلى خير العمل. ثم بعد بيانه لما يجده الانسان فى نفسه ـ من خيفة ما وراء الموت ، ولما يرشد إليه ذلك ـ أخذ يبين الوسيلة الموصلة إلى النجاة مما يخشاه القلب وتتوجس منه النفس ، وأنها التمسك بكتاب اللّه الذى بين أوصافه ، وبهذا التفسير التأم الكلام ، واندفعت حيرة الشارحين فى هذا المقام. وقوله «كتاب ـ الخ» جملة مستأنفة ، أى : هذا كتاب اللّه فيه ما تحتاجون إليه مماهدتكم الفطرة إلى طلبه
(٣) الغل : الحقد ، والاصطلاح