ثانيا : إنّ الله هو وحده مصدر كل رحمة ، وهو الذي أوجب على نفسه الرحمة ، ويفيض بنعمه على الجميع : (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ).
أيمكن لربّ هذا شأنه أن يقطع سلسلة حياة البشر نهائيا بالموت فيوقف التكامل واستمرار الحياة؟ أيتفق هذا مع مبدأ كون الله «فياضا» و «ذا رحمة واسعة»؟ أيمكن أن يكون قاسيا على عباده بهذا الشكل ، وهو مالكهم ومدبر شؤونهم ، بحيث أنّهم بعد مدّة يفنون ويتبدلون إلى لا شيء؟
طبعا لا ، إذ أنّ رحمته الواسعة توجب عليه أن يسير بالكائنات ـ وخاصة البشر ـ في طريق التكامل ، بمثل ما يجعل برحمته من البذرة الصغيرة الزهيدة شجرة ضخمة قوية ، أو يحيلها إلى شجيرة ورد جميلة ، كما أنّه بفيض رحمته يبدل النطفة التافهة إلى انسان كامل ، هذه الرحمة نفسها توجب أن يرتدي الإنسان ـ الذي عند امكانية الخلود ـ لباس حياة جديدة بعد موته في عالم أوسع ، تدفعه يد الرحمة في سيره التكاملي الأبدي ، لذلك يقول بعد هاتين المقدمتين : (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ).
إنّ الآية تبدأ بالاستفهام التقريري الذي يراد به انتزاع الإقرار من السامع ، ولمّا كان هذا الأمر مسلما به بالفطرة ، كما كان المشركون يعترفون بأنّ مالك عالم الوجود ليس الأصنام ، بل الله ، فإنّ الجواب يرد مباشرة ، وهذا أسلوب جميل في عرض مختلف المسائل.
في مواضع أخرى من القرآن يستدل على المعاد بطرق أخرى ، بطريق قانون العدالة ، وقانون التكامل ، والحكمة الإلهية ، ولكن الاستدلال بالرحمة استدلال جديد جاءت به هذه الآية.
في نهاية الآية إشارة إلى مصير المشركين المعاندين وعاقبتهم ، فهؤلاء الذين أضاعوا رأس مال وجودهم في سوق تجارة الحياة ، لا يؤمنون بهذه الحقائق : (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).