وهنا يمكن ان ينقدح هذا السؤال ، وهو : لم تباحث ابراهيم عليهالسلام مع رسل الله وجادلهم في قوم آثمين ظالمين ـ كقوم لوط ـ وقد أمروا بتدميرهم ، في حين انّ هذا العمل لا يتناسب مع نبيّ ـ خاصّة إذا كان ابراهيم عليهالسلام في عظمته وشأنه؟
لهذا فإنّ القرآن يعقّب مباشرة في الآية عن شفقة ابراهيم وتوكله على الله فيقول (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) (١).
في الواقع هذه الكلمات الثلاث المجملة جواب على السؤال المشار اليه آنفا. وتوضيح ذلك : انّ هذه الصفات المذكورة لإبراهيم تشير الى انّ مجادلته كانت ممدوحة ، وذلك لانّ ابراهيم لم يتّضح له انّ امر العذاب صادر من قبل الله بصورة قطعية ، بل كان يحتمل انّه لا يزال لهم حظ في النجاة ، ويحتمل انّهم سيرتدون عن غيهم ويتّعظون ، ومن هنا فما زال هناك مجال للشفاعة لهم ... فكان راغبا في تأخير العذاب والعقاب عنهم ، لانّه كان حليما ، ومشفقا واوّاها ومنيبا الى الله.
فما ذكره البعض من انّ مجادلة ابراهيم إذا كانت مع الله فلا معنى لها ، وإذا كانت مع رسله فهم ايضا لا يستطيعون ان يفعلوا شيئا من أنفسهم ، فعلى كل حال فالمجادلة هذه غير صحيحة ـ مجانب للصواب.
والجواب : انّه لا كلام في الحكم القطعي ، امّا لو كان الحكم غير قطعي فمع تغيير الظروف وتبدل الأوضاع يمكن تغييره ، لانّ طريق الرجوع لا زال مفتوحا ، وبتعبير آخر : فإنّ الأوامر في هذه الحالة مشروطة لا مطلقة.
وامّا من احتمل انّ المجادلة كانت مع الرسل في شأن نجاة المؤمنين ، واستشهدوا على هذا القول بالآيتين (٣١) و (٣٢) من سورة العنكبوت (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا
__________________
(١) «الحليم» مشتق من «الحلم» وهو : الاناة والصبر في سبيل الوصول الى هدف مقدس ، والأواه في الأصل : كثير التحسر والآه سواء من الخوف من المسؤلية التي يحملها او من المصائب ، والمنيب من الانابة اي الرجوع.