ايّاهم (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا) اي انّهم بعد ان يئسوا من عزيز مصر او من انقاذ أخيهم ، ابتعدوا عن الآخرين واجتمعوا في جانب وبداوا بالتشاور والنجوى فيما بينهم.
قوله تعالى (خلصوا) بمعنى الخلوص ، وهو كناية عن الابتعاد عن الآخرين والاجتماع في جلسة خاصّة ، امّا قوله تعالى «نجيّا» فهو من مادّة (المناجاة) وأصله من (نجوة) بمعنى الربوة والأرض المرتفعة ، فباعتبار انّ الربوات منعزلة عن اراضيها المجاورة ، سمّيت الجلسات الخاصّة البعيدة عن عيون الغرباء والحديث في السرّ قياسا عليها ب (النجوى) فإذا كلمة (النجوى) تطلق على الحديث السرّي والخاص سواء كانت في جلسة خصوصية او في محاورة خاصّة بين اثنين لا يتعدّى سمعهما.
ذهب كثير من المفسّرين الى انّ جملة (خَلَصُوا نَجِيًّا) تعدّ من افصح العبارات في القرآن وأجملها حيث انّ الله سبحانه وتعالى قد بيّن في كلمتين أمورا كثيرة يحتاج بيانها الى عدّة جمل.
وفي ذلك الاجتماع الخاص خاطبهم الأخ الكبير قائلا : (قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) بأن تردّوا اليه بنيامين سالما ، فالآن بماذا تجيبونه؟ وقد سوّدنا صفحتنا في المرّة السابقة بما عاملنا به أخانا يوسف (وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ)(١) فالآن والحالة هكذا ـ فإنّني لا اغادر ارض مصر وسوف اعتصم فيها (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) والظاهر انّ قصده بحكم الله ، امّا الموت الذي هو حكم الهي ، اي لا أبرح من هذه الأرض حتّى أموت فيها ، وامّا ان يفتح الله سبحانه وتعالى له سبيلا للنجاة ، او عذرا مقبولا عند أبيه.
__________________
(١) (فرّطتم) من مادّة تفريط وأصله من (فروط) على وزن شروط ، ومعناه التقدّم ، ولكن حينما يكون من باب التفعيل يأخذ معنى القصور في التقدّم ، وحينما يكون من باب الأفعال (افراط) يأخذ معنى الإسراف في التقدّم والتجاوز عنه.