لكن ـ مقارنا مع حركة القافلة من مصر ـ حدث في بيت يعقوب حادث غريب بحيث اذهل الجميع وصار مثارا للعجب والحيرة ، حيث نشط يعقوب وتحرّك من مكانه وتحدّث كالمطمئن والواثق بكلامه قال : لو لم تتحدّثوا عنّي بسوء ولم تنسبوا كلامي الى السفاهة والجهل والكذب لقلت لكم : (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) فإنّي احسّ بأنّ ايّام المحنة والآلام سوف تنصرم في القريب العاجل ، وانّه قد حان وقت النصر واللقاء مع الحبيب ، وارى انّ آل يعقوب قد نزعوا ثوب العزاء والمصيبة ولبسوا لباس الفرح والسرور ـ لكن لا تصدّقون كلامي (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ)(١).
والمستفاد من قوله تعالى (فصلت) انّه بمجرّد ان تحرّكت القافلة من مصر احسّ يعقوب بالأمر وتغيّرت أحواله.
امّا الذين كانوا مع يعقوب ـ وهم عادة أحفاده وازواج أولاده وغيرهم من الأهل والعشيرة ـ فقد استولى عليهم العجب وخاطبوه بوقاحة مستنكرين : (قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) أليس هذا برهانا واضحا على ضلالك حيث مضت سنين طويلة على موت يوسف لكنّك لا زلت تزعم انّه حي ، وأخيرا تقول : انّك تشمّ رائحته من مصر؟! اين مصر واين الشام وكنعان؟! وهذا دليل على بعدك عن عالم الواقع وانغماسك في الأوهام والخيالات لكنّك قد ضللت منذ مدّة طويلة ، الم تقل لاولادك قبل فترة اذهبوا الى مصر وتحسّسوا عن احوال يوسف!
يظهر من هذه الآية الشريفة انّ المقصود ب (الضلال) ليس الانحراف في العقيدة ، بل الانحراف في تشخيص حقيقة حال يوسف والقضايا المتعلّقة به ، لكن يستفاد من هذه التعابير انّهم كانوا يتعاملون مع هذا النّبي الكبير والشيخ المتيقّظ
__________________
(١) (تفنّدون) من مادّة (الفند) على زنة (الرمد) ومعناها العجز الفكري والسفاهة ، ومضى بعض اللغويين الى انّ معناها الكذب ومعناها في الأصل الفساد. فبناء على ذلك فإنّ جملة (لو لا ان تفنّدون) معناها إذا لم تتّهموني بالسفاهة وفساد العقل.