تبيّن ، وحقّ رأيته عليّ قد تعيّن ، بذلت فيه جهدي ، وأقطعته جانب سهدي ، لينظم هذا البلد بمثله ، مما أثير كامنه ، وسطّرت محاسنه ، وأنشر بعد الممات جانبه (١) : [الوافر]
وما شرّ الثلاثة أمّ عمرو |
|
بصاحبك الذي لا تصبحينا |
فلم أدع واحدة إلّا استنجدتها ، ولا حاشية إلّا احتشدتها ، ولا ضالّة إلّا نشدتها ؛ والمجتهد في هذا الغرض مقصّر ، والمطيل مختصر ، إذ ما ذكر لا نسبة بينه وبين ما أغفل ، وما جهل أكثر مما نقل ، وبحار المدارك مسجورة (٢) ، وغايات الإحسان على الإنسان محجورة ؛ ومن أراد أن يوازن هذا الكتاب بغيره من الأوضاع فليتأمّل قصده ، ويثير كامنه ، ويبدي خبائنه (٣) ، تتّضح له المكرمة ، ولا تخفى عليه النّصفة ، ويشاهد مجزي السّيّئة بالحسنة ، والإغراب عن الوصمة والظّنّة ، إذ الفاضل في عالم الإنسان ، من عددت سقطاته ، فما ظنّك بمفضوله. وللمعاصر مزية المباشرة ، ومزيد الخبرة ، وداعي التشفّي والمقارضة ؛ وسع الجميع السّتر ، وشملهم البرّ ، ونشرت جنائزهم لسقي الرحمة ، ومثني الشفاعة ، إلّا ما شذّ من فاسق أباح الشرع حماه ، أو غادر وسمه الشؤم الذي جناه ، فتختلّ عرضه عن تخليد مجد ، وتدوين فخر ، وإبقاء ذكر ، لمن لم يهمّه قطّ تحقيق اسم أبيه ، ولم يعمل لما بعد يومه ، فكم خلف مما ذكر فيه يجده بين يديه ، شفيعا في زلّة ، أو آخذا بضبع إلى رتبة ، أو قائما عند ضيم بحجّة ؛ أو عانس يقوم لها مقام متاع ونحلة ، أو غريب يحلّ بغير قطره فيفيده نحلة ، صاعد خدم قاعدا ونائما. وقد رضينا بالسلامة عن الشكر ، والإصغاء عن المثوبة ، والنّصفة عوض الحسرة ، إذ الناس على حسب ما سطّر ورسم ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم.
والترتيب الذي انتهت إليه حيلتي ، وصرفت في اختياره مخيلتي ، هو أني ذكرت البلدة (٤) ، حاطها الله ، منبّها منها على قديمها ، وطيب هوائها وأديمها ، وإشراق علاها ، ومحاسن حلاها ، ومن سكنها وتولّاها ، وأحوال أناسها ، ومن دال بها من
__________________
(١) البيت من معلقة عمرو بن كلثوم التغلبي. راجع : المعلقات العشر ، شرح ودراسة الدكتور مفيد قميحة ، دار الفكر اللبناني ، بيروت ، ١٩٩١ (ص ١٦٧).
(٢) مسجورة : فيّاضة ، مفعمة. لسان العرب (سجر).
(٣) الخبائن : هذا الجمع لم يرد في معاجم اللغة العربية وجاء فيها لفظة : «خبنة» ، والمراد هنا الخفايا ، من قولهم : خبن الشيء يخبنه إذا أخفاه. لسان العرب (خبن).
(٤) المراد بالبلدة : غرناطة.