يقول (١) : [الوافر]
ضروب الناس عشّاق ضروبا |
|
فأعذرهم أشفّهم حبيبا |
فلست ببدع ممّن فتن بحب وطن ، ولا بأول ما شاقه منزل فألقى بالعطن ، فحبّ الوطن معجون بطينة (٢) ساكنه ، وطرفه مغرى بإتمام (٣) محاسنه ، وقد نبّه علي بن العباس (٤) على السّبب ، وجاء في التماس التّعليل بالعجب ، حيث يقول : [الطويل]
وحبّب أوطان الرجال إليهم |
|
مآرب قضّاها الشّباب هنالكا |
إذا ذكروا أوطانهم ذكّرتهم |
|
عهود الصّبا فيها فحنّوا لذلكا |
ورميت في هذا المعنى بسهم سديد ، وألمحت بغرض إن لم يكنه فليس ببعيد : [الطويل]
أحبّك يا مغنى الجلال بواجب |
|
وأقطع في أوصافك الغرّ أوقات |
تقسّم منك التّرب قومي وجيرتي |
|
ففي الظّهر أحياء وفي البطن أموات |
وقد كان أبو القاسم الغافقي (٥) من أهل غرناطة ، قام من هذا الغرض بفرض ، وأتى من كله ببعض ، فلم يشف من غلّة ، ولا سدّ خلّة ، ولا كثّر قلّة ، فقمت بهذا الوظيف ، وانتدبت فيه للتأليف ، ورجوت على نزارة حظّ الصّحة ، وازدحام الشواغل الملحّة ، أن أضطلع من هذا القصد بالعبء الذي طالما طأطأت له الأكتاد ، وأقف منه الموقف الذي تهيّبته الأبطال الأنجاد ، فاتخذت الليل جملا لهذه الطّيّة (٦) ، وانتضيت غارب العزم ونعمت المطيّة ، بحيث لا مؤانس إلّا ذبال (٧) يكافح جيش الدّجى ، ودفاتر تلفح الحجا ، وخواطر تبتغي إلى سماء الإجادة معرجا ؛ وإذا صحب العمل صدق النّيّة ، أشرقت من التّوفيق كلّ ثنيّة ، وطلعت من السّداد كلّ غرّة سنيّة ، وقد علم الله أني لم أعتمد منها دنيا أستمنحها ، ولا نسمة جاه يستنشق ريحها ؛ وإنما هو صبح
__________________
(١) ديوان المتنبي (ص ١٩٩). هو مطلع قصيدة من ٤٢ بيتا ، قالها في مدح علي بن محمد بن سيّار بن مكرم.
(٢) في ريحانة الكتاب : «في طينة».
(٣) في المصدر نفسه : «بالتماح».
(٤) هو أبو الحسن علي بن العباس بن جريج ، ابن الرومي ، المتوفّى سنة ٢٨٣ ه. وترجمته في وفيات الأعيان (ج ٣ ص ٣١٣) وفيه ثبت بأسماء المصادر التي ترجمت له.
(٥) هو أبو القاسم محمد بن عبد الواحد الغافقي الملاحي ، صاحب كتاب «تاريخ علماء إلبيرة» ، وقد تقدّم ذكره قبل قليل.
(٦) الطّيّة : المقصد ، والمنتأى. لسان العرب (طوى).
(٧) الذّبال : جمع ذبالة وهي الفتيلة التي تسرج. لسان العرب (ذبل).