ليسليكم وينفس عنكم ، كيلا تحزنوا على ما فاتكم من نصر الله ، ولا على ما أصابكم من غلبة العدوّ انتهى كلامه. وهو خلاف الظاهر. لأن المسند إليه الأفعال السابقة هو الله تعالى ، وذلك في قوله : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ) (١) وقوله : (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ) (٢) (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) (٣) والله فيكون قوله : فأثابكم مسندا إلى الله تعالى. وذكر الرسول إنما جاء في جملة حالية نعى عليهم فرارهم مع كون من اهتدوا على يده يدعوهم ، فلم يجىء مقصودا لأن يحدث عنه ، إنما الجملة التي ذكر فيها في تقدير المفرد إذ هي حال. وقال الزمخشري : فأثابكم عطف على صرفكم انتهى. وفيه بعد لطول الفصل بين المتعاطفين. والذي يظهر أنه معطوف على تصعدون ولا تلوون ، لأنه مضارع في معنى الماضي ، لأن إذ تصرف المضارع إلى الماضي ، إذ هي ظرف لما مضى. والمعنى : إذ صعدتم وما لويتم على أحد فأثابكم.
(لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ) اللام لام كي ، وتتعلق بقوله : فأثابكم. فقيل : لا زائدة لأنه لا يترتب على الاغتمام انتفاء الحزن. فالمعنى : على أنه غمهم ليحزنهم عقوبة لهم على تركهم موافقتهم قاله : أبو البقاء وغيره. وتكون كهي في قوله : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) (٤) إذ تقديره : لأن يعلم. ويكون أعلمهم بذلك تبكيتا لهم ، وزجرا أن يعودوا لمثله. والجمهور على أن لا ثابتة على معناها من النفي. واختلفوا في تعليل الإثابة بانتفاء الحزن على ما ذكر.
فقال الزمخشري : لكيلا تحزنوا لتتمرّنوا على تجرع الغموم ، وتضروا باحتمال الشدائد ، فلا تحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع ، ولا على مصيب من المضار انتهى. فجعل العلة في الحقيقة ثبوتية ، وهي التمرن على تجرع الغموم والاعتياد لاحتمال الشدائد ، ورتب على ذلك انتفاء الحزن ، وجعل ظرف الحزن هو مستقبل لا تعلق له بقصة أحد ، بل لينتفي الحزن عنكم بعد هذه القصة. وقال ابن عطية : المعنى لتعلموا أن ما وقع بكم إنما هو بجنايتكم ، فأنتم أذيتم أنفسكم. وعادة البشر أنّ جاني الذنب يصبر للعقوبة ، وأكثر قلق المعاقب وحزنه إنما وقع هو مع ظنه البراءة بنفسه انتهى. وهذا تفسير مخالف لتفسير الزمخشري. ومن المفسرين من ذهب إلى أن قوله : لكيلا تحزنوا متعلق بقوله : ولقد عفا عنكم ، ويكون الله أعلمهم بذلك تسلية لمصابهم وعوضا لهم عن ما أصابهم من الغم ، لأن عفوه يذهب كل غم. وفيه بعد لطول الفصل ، ولأن ظاهره تعلقه بمجاور ، وهو فأثابكم.
__________________
(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٥٢.
(٢) سورة آل عمران : ٣ / ١٥٢.
(٣) سورة آل عمران : ٣ / ١٥٢.
(٤) سورة الحديد : ٢٩ / ٥٧.