عن من مات كافرا ، فلذلك تحتمت اللعنة عليهم ، وهنا ليس كذلك ، ألا ترى إلى سبب النزول؟ وأن أكثر الأقوال إنها نزلت في قوم ارتدوا ثم راجعوا الإسلام؟ ولذلك جاء الاستثناء وهو قوله : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) وهو استثناء متصل ، ولذلك قال (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي : من بعد ذلك الكفر العظيم.
(وَأَصْلَحُوا) أي : ما أفسدوا ، أو : دخلوا في الصلاح ، كما تقول : أمسى زيد أي : دخل في المساء وقيل : معنى أصلحوا أظهروا أنهم كانوا على ضلال ، وتقدم تفسير هذه اللفظة في البقرة في قوله (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا) (١).
(فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) غفور أي لكفرهم ، رحيم لقبول توبتهم ، وهما صيغتا مبالغة دالتان على سعة رحمته.
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) نزلت في اليهود ، كفروا بعيسى وبالإنجيل بعد إيمانهم بأنبيائهم ، ثم ازدادوا كفرا بكفرهم بمحمد صلىاللهعليهوسلم بعد إيمانهم بنعته ، قاله قتادة ، والحسن. وقيل : في اليهود كفروا بمحمد صلىاللهعليهوسلم بعد إيمانهم بصفاته ، وإقرارهم أنها في التوراة ، ثم ازدادوا كفرا بالذنوب التي أصابوها في خلاف النبي صلىاللهعليهوسلم من الافتراء والبهت والسعي على الإسلام ، قاله أبو العالية. أو : معنى : ثم ازدادوا كفرا ، تموا على كفرهم وبلغوا الموت به ، فيدخل فيه اليهود والمرتدون ، قاله مجاهد ، وقال نحوه السدي. وقيل : نزلت فيمن مات على الكفر من أصحاب الحارث بن سويد ، فإنهم قالوا : نقيم ببكة ونتربص بمحمد صلىاللهعليهوسلم ريب المنون ، قاله الكلبي.
ويفسر بهذه الأقوال معنى ازدياد الكفر ، وهو بحسب متعلقاته ، إذ الإيمان والكفر في التحقيق لا يزدادان ولا ينقصان ، وإنما تحصل الزيادة والنقصان للمتعلقات ، فينسب ذلك إليهما على سبيل المجاز. وازدادوا افتعلوا من الزيادة ، وانتصاب : كفرا ، على التمييز المنقول من الفاعل ، المعنى : ثم ازداد كفرهم ، والدال الأولى بدل من تاء الافتعال.
ويحتمل قوله (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) وجهين :
أحدهما : أنه تكون منهم توبة ولا تقبل ، وقد علم أن توبة كل كافر تقبل سواء كفر
__________________
(١) سورة البقرة : ٢ / ١٦٠.