كان سفره إليها فإنه يكاد يستحيل عليه أن يسافر إليها إلا هربا ، خصوصا إذا كان من جماعة الأرمن ، حتى إنه كان يوجد في كثير من ثغور البحر الأبيض ـ كبيروت وحيفا وصيدا ـ شركات لتهريب المسافرين إلى البلاد الأميركية ، فكانت الشركة تأخذ ممن يريد السفر إلى تلك الجهات ليرتين إلى عشر ليرات ، وتهرّبه بواسطة زورق تحمله فيه من فرضة عسرة المسلك أو بعيدة عن العمران. وكثيرا ما كان ولاة بيروت ورجال الدرك فيها يأخذون من تلك الشركات شيئا معلوما على كل مسافر فيجتمع لهم من ذلك مقدار عظيم من المال.
وفي أوائل رجب منها قرر أمراء العسكرية وضباطها ـ ومن انضم إليهم من موظفي الحكومة والأعيان في حلب ـ بأن يحتفلوا بزينة وإحياء ليلة لسماع الموسيقى وآلات الطرب وإلقاء الخطب التي موضوعها التنويه بالحمد والشكر على المناداة بالقانون الأساسي ، وعود مجلس المبعوثان ، وانتشار راية الحرية والعدل والمساواة بين جميع العناصر العثمانية ، على أن يكون إحياء تلك الليلة في بستان الشاهبندر ليلة الاثنين ٦ رجب الموافق ٢٢ تموز الرومي. وفي مساء يوم الأحد أقبل الناس إلى البستان المذكور ، ولما انتظم عقد المدعوين قام الخطباء يتلو بعضهم بعضا يلقون الخطب باللغتين التركية والعربية ، مآلها ما ذكرناه ، وهي أول خطب ألقيت في حلب بعد قرون طويلة لم ينقل إلينا التاريخ في أثنائها أن أحدا ألقى في حلب خطبة سياسية على رؤوس الأشهاد ، فيها بيان خطأ سلطان أو خليفة أو أمير ، حتى زالت هذه الملكة من علماء حلب وكتّابها ، وصار يعسر على النابغة منهم إيراد خطبة ولو على المنبر خصوصا في أيام السلطان عبد الحميد. ولذا كانت تلك الليلة مما دهش له الناس حينما سمعوا الخطباء تنطق ألسنتهم في مدح العدل والحرية والمساواة والتنديد بالظلمة والمستبدين. غير أن بعض من لا خلاق لهم من العامة أصبحوا بعد تلك الليلة يتظاهرون بالفسق والفجور وعدم المبالاة بالحكومة ، لفهمهم بأن الحرية التي نودي بها هي عبارة عن الرخصة لكل إنسان أن يعمل كل ما يريده دون قيد أدبي أو ديني.
وبعد هذه الليلة بدأ الحزب المتقهقر قبل إعلان الحرية يطلقون ألسنتهم علنا بذكر مظالم السلطان عبد الحميد وتنفير القلوب منه ، وذكر مساوىء حاشيته وأعوانه وجواسيسه ويصرّحون بشتمهم ولعنهم. فارتاع لذلك أهل الصيّال قبل الإعلان المذكور في حلب وغيرها ، وظهر على عظمائهم وعتاتهم الذل والانكسار ، فانزووا عن الناس ولزموا بيوتهم.