ثم بعد أيام قليلة تألّف في المكتب الإعدادي الملكي جمعية عظيمة قوامها الضباط وبعض المأمورين وجمهور من أهل البلدة ، فاختاروا من الحاضرين جماعة سموّهم جمعية الاتحاد والترقي العثماني ، وألقي في ذلك الاحتفال الخطب التي مآلها مدح الحرية والمساواة وبيان مظالم بعض الأسر الحلبية وكثرة جورهم وتعديهم. وقد جعلت هذه الجمعية فرعا لجمعية الاتحاد والترقي العثماني في سلانيك المنعقدة تحت رياسة أنور بك ونيازي بك بطلي هذا الانقلاب. وقد تحالفت هذه الجمعية بجميع فروعها على التفاني والتهالك في سبيل المحافظة على تنفيذ أحكام القانون الأساسي والضرب على يد كل من خالفها وحاول المروق عنها. وجعل لهذه الجمعية فروع في جميع ألوية الولاية وأقضيتها أسوة بأمثالها من الولايات العثمانية ، وعمل لها زينة في كل لواء وقضاء ، وعين لها مكان للاجتماع يسمى (كلوب).
وأول شيء قامت به هذه الجمعيات هو السيطرة على المأمورين وتدقيق أحوالهم فكانت الجمعية متى سمعت بموظف يميل إلى الرشوة والمحاباة ترسل إليه من يتهدده ويتوعده فلا يلبث غير قليل حتى يستقيل من وظيفته. وبهذه الواسطة استقال نحو نصف الموظفين الذين كانوا متخذين الوظيفة وسيلة لجمع المال ، غير مبالين ـ في سبيل الوصول إلى رغائبهم ـ من تضييع الحقوق وتخريب البيوت وتخليد الأبرياء في السجون. على أن كثيرا من ذوي الأغراض والمقاصد السيئة صاروا ينسبون أنفسهم إلى هذه الجمعية الحرة ويتسلطون على الحكّام والموظفين البريئين من دنس الجرائم. ولهذا بدأ الناس ينقمون على الجمعية بعض أعمالها وينددون بانحرافها عن جادة العدل التي لم تنعقد الجمعية إلا لأجل السلوك عليها.
وقد جرى نظير ذلك في الآستانة وأكثر البلاد العثمانية ، حتى فطن مركز الجمعية الكبرى في سلانيك بأعمال هؤلاء المتطفلين عليها ، فصارت ترسل إنذاراتها إلى الولاة وتحذرهم من مجاراة أولئك المتطفلين ، وتظهر تبرّؤها منهم ومن أعمالهم. غير أن الولاة كانوا لا يقدرون على منعهم والتعرض إليهم فوقعوا تحت نير تسلطهم وصاروا مغلوبين على أمرهم مغلولة أيديهم عن مباشرة إصلاح أحوال ولاياتهم وتنظيم أمورها ، فأصبحت الحالة بسبب ذلك شبيهة بالفوضى ، وكثر التجاهر بالمعاصي والفجور ، ونهض أهل الدعارة واللصوص في المدن والقرى يتصدّون لقطع الطرق وسلب أموال الناس ، وقام القرويون يطردون من قراهم أصحابها وينتهبون مدخرات حبوبهم وأصبح الناس في أمر مريج.