ومعرفة هذه اللّذة لا يدركها واقعاً من ذاقها ، ونعم ما قيل : من ذاق عرف (١).
إنّ تعلّم العلوم كلّها تخلق لذّة عند المعلّم ، ولكنّ لذّة طلب العلم بالله وصفاته وآثاره وشرائعه لا تعادلها لذّة. ونحن نلاحظ على مستوى الحسّيات الفارقَ الكبير بين لذّة ولذّة ، وبين شخص وآخر.
ولذّة المعرفة بالله تتطلّب مسيرة ارتقائيّة طويلة في تجاوز الماديّات والغرائز والأهواء ، كما تتطلّب تجاوز الانشداد إلى عالم الحسّ للوصول إلى عالم التجرّد ومراقي الكمال العقليّ والخلوص النفسيّ ، وهذه ليست كتاباُ يُقرأ ، ولا محاضرة تُلقى ، بل هي رحلة جهاديّة ، ورياضة نفسيّة صعبة لا ينالها إلّا ذوو النفوس الكبيرة وأصحاب الآمال الواسعة ، أُولئك الذين توجّهت نفوسهم إلى عالم الكمال والبقاء السرمديّ وميدان الربوبيّة غير المتناهي. إنّ هذه الرحلة بمثابة إحراق الذهب بالنار لتخليصه من الكدورات والشوائب ، وإنّ العارف بالله يجد الله عنده وأمامه ووراءه في كلّ حركة وسكنة ، بل في كلّ نَفَس ، فتراه بعيداً عن مشاغل الدنيا وهمومها ، ونعيمها وشقائها ، وخيرها وشرّها ، إنّه مستغرق ذائب في ذات الله ، ومتلذّذ بلذّة اللقاء.
أُنظر هذا التسلسل رجاءً : المعرفة ثمّ الكمال ثمّ السعادة.
روى طاووس اليماني أنّه شاهد الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام يطوف ويتعبّد من العشاء إلى السَّحَر ، ثمّ أخذ بالمناجاة والبكاء ، يقول طاووس : ثمّ خرّ إلى الأرض ساجداً ، فدنوت منه وأخذت رأسه ووضعته على ركبتي ، وبكيت حتّى جرت دموعي على خدّه ، فاستوى جالساً وقال عليه السلام : من الذي أشغلني عن ذكر ربّي؟ (٢)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
١ ـ جامع السعادات ٣ : ١٥٩.
٢ ـ مناقب آل أبي طالب : ٢٩١ ، الصحيفة السجّاديّة (ط الأبطحي) : ١٧٧.