بل المشكلة مشكلة عناد مع سبق الإصرار ، انطلاقا من أن قضية الدين لم تكن لديهم قضية التزام فكري وعملي ، بل هي قضية تأكيد للذات على مستوى ذهنية المهنة التي تمنح صاحبها موقعا اجتماعيا متقدما ، وربحا ماديا كبيرا ، مما يؤدي بهم إلى تحريف النص الديني إلى غير ما يوحي به من الحقائق ، ليسخّروه في خدمة أطماعهم وشهواتهم ، ويوظفوه لهذا الطاغية وذاك المنحرف ، ويؤوّلوه على حسب الأوضاع الطارئة الموجودة في واقعهم ، كما كانوا يقولون عن المسلمين في حديثهم عن المشركين : (هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) [النساء : ٥١] مع وضوح الضلال الإشراكي في عبادتهم للأوثان ، والهدى الإسلامي في توحيد الله في العقيدة والعبادة ، لذلك فإن قضية الكفر عندهم لم تكن منطلقة من الفكر المضاد ، بل من الذاتيات المنحرفة الغارقة في الأطماع والشهوات ، وهذا هو النموذج الذي تمثله القوى المتقدمة فيهم.
(وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ) ويدركون معانيه وإيحاءاته ودلالاته التي تقودهم إلى معرفة الحق في الدين الجديد والصدق في النبي المرسل ، (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ) ويؤوّلونه ، ويبتعدون به عن ظاهره إلى معنى آخر ، لا علاقة له بالحقائق العقيدية الإيمانية (مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ) وعرفوه في عمقه وامتداده بحيث لم تكن هناك شبهة ، (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ويجعلون الحرام حلالا والحلال حراما ، ويقولون : (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) [آل عمران : ٧٥] فيحلّون لأنفسهم نهب أموال العرب الذين يطلقون عليهم اسم الأميين ، بحجة أن التوراة تبيح لهم ذلك.
فكيف تطمعون أن يؤمنوا لكم بعد ذلك ، لأن الإيمان لا بد من أن يتحرك من موقع قلق المعرفة الباحثة عن الحق ، وإرادة الإيمان المنطلقة في خطّ الفكر.