العلماء والمفسرون
اعلم ان من الناس من كانوا ذوي فهم ثاقب وفكر صائب وقريحة متوقدة فإذا توجهوا الى العلوم انهمكوا فيها انهماك المنهوم ، فلا يزالون يجدون في اتقان مقدماتها وأحكام مبانيها باذلين جهدهم في الغوص على دررها ورفع حجب الجهل وأغاليطه عن وجوه حقائقها ، يزنون المنقول بالمعقول ويردون الفروع إلى الاصول. فالذين فازوا بهذه الفضيلة هم المستحقون لاسم العلماء ، ومن الناس قوم مالوا الى العلم وقعدت بهم الهمم وقصور الاستعداد عن طلب الغاية العليا ، فارتضوا من الفضيلة ان ينسبوا الى فن من الفنون ، واكتفوا من الملكات بكثرة الحفاظ فاقتنعوا بالمنقول والأخذ من الأفواه وسواد الكتابات ، ولم يكن همهم في ذلك إلا تكثير بضاعتهم ، ووفور محفوظاتهم ، وغرابة منقولاتهم من غير التفات الى التحقيق ، ولا وصول الى الحقائق ، ولا انتقاد لما يسمعون ، ولا تدبر لما يقولون ويكتبون ورواج بضاعتهم سهولة اخذ الهمج الرعاع عنهم ، وموافقة خبطهم لأهواء المدلسين. ومن هؤلاء كثير من المفسرين والمحدثين الذين وقف العلماء لهم بالمرصاد ، ونبهوا على خبطهم وخطأهم ، كما ذكرناه عن تفسير الخازن.
المفسرون والنسخ
وقد ذكر في الاتقان مما اورده المكثرون في النسخ أقساما وأمثلة لا يخفى انها ليست من النسخ الذي هو محل الكلام في شيء ، بل ان جعلها منه إنما هو من فلتات الأوهام ، وسوء التخليط ، وعدم التدبر .. فمن ذلك جعلهم من اقسام النسخ كلما جاء في الشريعة المقدسة مبطلا لضلالات الجاهلية وعوائدهم الذميمة ، وكأنهم لم يسمعوا من العلماء ان النسخ إنما هو رفع الله لحكمه السابق بإعلان حكمه اللاحق حسب اقتضاء المصلحة والإصلاح ، فإن رضي المتكلف أن يعد ما ذكروه من قسم النسخ لزمه على رأيه ان تكون أحكام التوراة كلها ناسخة ، ولكنه مع ذلك لا يبالي ان يقول : وعلى كل حال فلا ناسخ ولا منسوخ.
ومن ذلك جعلهم جميع الآيات المادحة على الإنفاق والنادبة إليه منسوخة