وليس ذلك ممّا يستخرج بالأدلة والمقاييس ، ومن رجع إلى العادة علم ما ذكرناه وأنّه من أقوى ما ينفّر عن قبول القول ، فإنّ حظّ الكبائر في هذا الباب إن لم يزد على حظ السخف والمجون والخلاعة لم ينقص عنه.
فإن قيل : أليس قد جوّز كثير من الناس عليهم الكبائر مع أنّهم لم ينفروا عن قبول أقوالهم والعمل بما شرّعوه من الشرائع ، وهذا ينقض قولكم : إنّ الكبائر منفّرة؟
قلنا : هذا سؤال مَن لم يفهم ما أوردناه ، لأنّا لم نرد بالتنفير ارتفاع التصديق وأن لا يقع امتثال الأمر جملة ، وإنّما أردنا ما فسّرناه من أنّ سكون النفس إلى قبول قول من يجوز ذلك عليه لا يكون على حدّ سكونها إلى من لا يجوز ذلك عليه ، وإنّا مع تجويز الكبائر نكون أبعد عن قبول القول ، كما أنّا مع الأمان من الكبائر نكون أقرب إلى القبول ، وقد يقرب من الشيء ما لا يحصل الشيء عنده ، كما يبعد عنه ما لا يرتفع عنده.
ألا ترى أنّ عبوس الداعي للناس إلى طعامه وتضجّره وتبرّمه منفّر في العادة عن حضور دعوته وتناول طعامه ، وقد يقع مع ما ذكرناه الحضور والتناول ولا يخرجه من أن يكون منفّراً ؛ وكذلك طلاقة وجهه واستبشاره وتبسّمه يقرب من حضور دعوته وتناول طعامه ، وقد يرتفع الحضور مع ما ذكرناه ولا يخرجه من أن يكون مقرباً ، فدلّ على أنّ المعتبر في باب المنفر والمقرب ما ذكرناه دون وقوع الفعل المنفر عنه أو ارتفاعه.
فإن قيل : فهذا يقتضي أنّ الكبائر لا تقع منهم في حال النبوة ، فمن أين يُعلم أنّها لا تقع منهم قبل النبوة ، وقد زال حكمها بالنبوة المسقطة للعقاب والذم ، ولم يبق وجه يقتضي التنفير؟