الجواب : أنّه لا شك أن المفاهيم لا ظرف لها واقعا سوى الذهن ، ضرورة أنّه ليس لنا علم وراء عالم الذهن ، والخارج يكون هو عالم المفاهيم ، ولا شك أنّ الذهني بما هو ذهني مباين للخارجي ، فلا ينطبق عليه ، فصدق المفاهيم على الخارجيّات لا يمكن إلّا بعد تعريتها عن الوجود الذهني وإلغاء هذا الوصف عنها ، كما هو الحال فيها في النظرة الاولى ، فإنّ الناظر بهذه النظرة لا يلتفت إلى جهة كونها في ذهنه ، بل يتخيّلها أشياء أجنبيّة غير مرتبطة بعالمى الذهن والخارج ، ويشير إليها ويعبّر عن هذا العالم الذي يتخيل في النظرة الاولى بظرف التقرّر وإنّما يلتفت إلى ذلك شخص آخر يطّلع على حاله أو هو بعد انصرافه عن هذه النظرة وتلبّسه بالنظرة الثانية.
فالمفاهيم مع كونها واقعا متّصفة بالوجود الذهني إذا صرف النظر عن هذه الصفة الكائنة فيها واقعا ينطبق على الخارجيات ، وكما لا بدّ من تعرية المفاهيم عن هذه الصفة كذلك لا بدّ من تعريتها عن صفاتها الخاصّة بوجودها الذهني الغير الكائنة فيها في الخارج كصفة التجريد أعنى كون المفهوم معرّى عن جميع الخصوصيّات الخارجيّة بحيث بقى وحده ومنفردا ، فإنّ من المعلوم أنّ المفهوم لا يتلبّس بهذه الصفة في الخارج وإنّما يتلبّس به في الذهن ، ولهذا لو لوحظ معها يباين الخارجيات ، فالمفاهيم مع كونها واقعا بهذه الصفات إذا صرف النظر عن هذه الصفات الكائنة فيها واقعا ينطبق على الخارجيات.
فانقدح بذلك أنّ مفهوم «من» مثلا كسائر المفاهيم بلا فرق فى أنّه بعد التعرية المذكورة يصير كلّيا صادقا على الكثيرين ، مع أن واقعه موجود ذهني ، فحاله في ذلك حال مفهوم لفظ «الابتداء» بعينه بل ابتلاء الثاني أشدّ من الأول بالذهن ، حيث إنّه على ما عرفت متّصف في الذهن بوصف الاستقلال المضادّ لما فى الخارج من وصف الاندكاك والافتقار ، فهو مضافا إلى التجريد عن الوجود الذهني يحتاج