إذا عرفت تلك المقدّمة ، فاعلم ، أنّا كما نحتاج في موقف الإفادة والاستفادة إلى ألفاظ تدلّ على المعاني الجوهريّة أو العرضيّة ، كذلك نحتاج إلى ألفاظ تدلّ على النّسب والإضافات والوجودات الرّابطة الّتي لا استقلال لها أصلا ، لا في الهويّة ولا في الماهيّة ، وهذه الألفاظ هي الحروف ، فمعنى الحروف الإخطاريّة ربط محض بين الجواهر والأعراض في جميع النّشئات ، وهي نشأة العقل والعين واللّفظ والكتابة.
غاية الأمر : نفس المعنى الحرفيّ ربط عقليّ بين الجواهر والأعراض في القضايا المعقولة ، وخارج معناه ومطابقه الموجود في الخارج ، ربط خارجيّ بينهما في القضايا الخارجيّة ، ولفظ الحرف ربط لفظيّ بينهما في القضايا اللّفظيّة ، ومكتوب الحرف ربط كتبيّ بينهما في القضايا الكتبيّة.
وبالجملة : ففي مثل قولنا : «زيد في الدّار» لا يتحقّق الارتباط بين «زيد» و «الدّار» إلّا بالوجود الرّابط الّذي تدلّ عليه لفظة : «في» وهو المسمّى : «بالحرف» بحيث لو لا هذا الحرف بقيت المعاني منفردة.
وهذا الرّبط ، إمّا عقليّ ، كما إذا كان الارتباط بين كلمتي : «زيد» و «الدّار» ـ مثلا ـ بلحاظ صورتهما المعقولة ، أو خارجيّ ، كما إذا كان الارتباط بينهما بلحاظ وجودهما الخارجيّ ، أو لفظيّ ، كما إذا كان الارتباط بينهما بلحاظ وجودهما اللّفظيّ أو كتبيّ ، كما إذا كان الارتباط بينهما بلحاظ وجودهما الكتبيّ.
إن قلت : كيف توضع الحروف لمعانيها ، مع عدم إمكان استحضار تلك المعاني في الذّهن ؛ لما عرفت ، من عدم تماميّتها ماهيّة وهويّة ، وواضح ، أنّه لا بدّ في الوضع من معرفة المعنى الموضوع له وتصوّره حتّى يوضع اللّفظ بإزائه.
قلت : الأمر كذلك ، إلّا أنّ العقل يحتال هنا بوجه لطيف ، وهو أنّه حيث يرى :