ومن قرأه بالهمز ، أو قدر فى الألف أنها بدل من همزة ، فهو أيضا نصب على الظرف ؛ والعامل فيه أيضا «اتبع» ؛ والتقدير : عند من جعله من «بدا يبدو» : وما اتبعك يا نوح إلا الأراذل فيما ظهر لنا من الرأى ؛ كأنهم قطعوا عليه فى أول ما ظهر لهم من رأيهم لم يتعقبون بنظر ، إنما قالوا بما ظهر لهم من غير يقين.
والتقدير ، عند من جعله من «الابتداء» فهمز : ما اتبعك يا نوح إلا أراذل فى أول الأمر ؛ أي : ما نراك فى أول الأمر اتبعك إلا الأراذل.
وجاز تأخر الظرف بعد «إلا» وما بعدها من الفاعل ثم صلته ، لأن الظروف يتسع فيها ما لا يتسع فى المفعولات ؛ فلو قلت فى الكلام : ما أعطيت أحدا إلا زيدا درهما ، فأوقعت اسمين مفعولين بعد «إلا» لم يجز ؛ لأن الفعل لا يصل ب «إلا» إلى اسمين ، إنما يصل إلى اسم واحد ، كسائر الحروف ؛ ألا ترى أنك لو قلت : مررت بزيد عمرو ، فتوصل الفعل إليهما بحرف واحد ، ولم يجز ، فأما قولهم : ما ضرب القوم إلا بعضهم بعضا ؛ فإنما جاز ؛ لأن «بعضهم» بدل من «القوم» ، فلم يصل الفعل بعد «إلا» إلا إلى اسم واحد.
٢٨ ـ (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ
فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ)
«فعمّيت عليكم» : من خففه من القراء حمله على معنى : فعميتم على الأخبار التي تأتيكم ، وهى الرحمة ، فلم تؤمنوا بها ، ولم تعم الأخبار نفسها عنهم ؛ إنما عموا هم عنها ، فهو من المقلوب ، كقولهم : أدخلت القلنسوة فى رأسى ، وأدخلت القبر زيدا ، فقلب جميع هذا فى ظاهر اللفظ ؛ لأن المعنى لا يشكل ؛ ومثله قوله تعالى (فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) ١٤ : ٤٧
وقيل : معنى «فعميت» ، لمن قرأ بالتخفيف : فخفيت ؛ فيكون غير مقلوب على هذا ، وتكون الأخبار التي أنت من عند الله خفى فهمها عليهم ، لقلة مبالاتهم بها وكثرة إعراضهم عنها.
فأما معناه ، على قراءة حفص وحمزة والكسائي ، الذين قرءوا بالتشديد والضم على ما لم يسم فاعله : فليس فيه قلب ، ولكن الله عماها عليهم لما أراد بهم من الشقوة ، يفعل ما يشاء سبحانه ، وهى راجعة إلى القراءة الأولى ، لأنهم لم يعموا عنها حتى عماها الله عليهم.
وقد قرأ أبى ، وهى قراءة الأعمش : «فعماها عليكم» ؛ أي : عماها الله عليكم ، فهذا شاهد لمن ضم وشدد.