ومن الواضح أن السؤال الأول كان يتصل بالقدر ومشكلة التكليف ، والثاني يتصل بحكم صاحب الكبيرة (١).
ولم تكن هذه التساؤلات من جانب الصحابة للرسول الكريم عن رغبة في الجدال المذموم وإثارة للشبهات التي يأباها الإسلام ، بل كانت صادرة ـ هي وغيرها ـ عن رغبة صادقة ونزعة مخلصة في فهم الدين وتدبر مراميه ، حتى يكون حظ الاقتناع العقلي في الإيمان به أوفر من حظ الجهل والتقليد.
فإذا كان هذا هو حال المؤمنين الصادقين في طرح الأسئلة على النبي فيما يتصل بالقدر وصلتها بالعقيدة بينة ، فإن ثمة من المشركين من أثاروا هذه المسألة لا يريدون بها إلا الفتنة ، فقال الله فيهم : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) [آل عمران : ٧].
وقد اتخذ أولئك من القول بالقدر ذريعة تسوغ لهم الإشراك بالله ؛ قال تعالى : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) [الأنعام : ١٤٨].
ومهما يكن من أمر هؤلاء المشركين ، فإن العقيدة الإسلامية على عهد النبي صلىاللهعليهوسلم اتسمت بما أشرنا إليه قبل قليل من القوة والوضوح والصفاء ، وما كان لشبه المشركين أن تزعزع الإيمان بها أو اليقين فيها ، لا سيما وقد التزم المسلمون المنهج السديد في النظر إلى العقائد وأصول الدين ، وهو منهج يقوم على التسليم بما ورد في كتاب الله دون المماراة فيه أو تأويله ، وتفويض أمر المتشابه إلى الله سبحانه وتعالى ، وحسبك شاهدا على صدق مقالتنا أن الرسول صلىاللهعليهوسلم قد أمر بوجوب الإيمان بالقدر ونهى عن الخوض فيه ؛ «لأن الخوض فيه مضلة للأفهام ومزلة للأقدام ، وحيرة للعقول في مضطرب من المذاهب والآراء ، وذلك يدفع إلى الفرقة والانقسام ، ولأن إثارة الجدل فيه إثارة في أمر ليس في سلطان المجادل الإقناع به ، وليس بيد أحد من الأدلة العقلية ما يحسم به الخلاف ، ويقطع
__________________
(١) د / عبد المقصود عبد الغني ، دراسات في علم الكلام (ص ٥٦).