معه» (١) ، ولأنكرنا سنته التي جاءت ـ كما سبق بيانه ـ لتبين مبهم القرآن ، وتفصل مجمله ، وتقيد مطلقه ، وتخصص عامه ، وتؤكد ما جاء فيه.
يتبين لنا أن التوسط والاعتدال بين المذهبين هو الخليق بالقبول ، ولذلك أقول : إن الرسول صلىاللهعليهوسلم بين الكثير من معاني القرآن لأصحابه ، تشهد بذلك كتب الصحاح المليئة بتفسيرات الرسول لكثير من الآيات ببيان معانيها وأحكامها ، وأنه صلىاللهعليهوسلم في الوقت نفسه ـ لم يبين كل معاني القرآن ؛ لأن من القرآن ما استأثر الله تعالى بعلمه ، فقال : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) [آل عمران : ٧].
وبدهي أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لم يفسر لهم ما يرجع فهمه إلى معرفة كلام العرب ؛ لأن القرآن نزل بلغتهم ، ولم يفسر لهم ما تتبادر الأفهام إلى معرفته ، ولم يفسر لهم ما استأثر الله بعلمه كقيام الساعة وحقيقة الروح ، وإنما فسر لهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعض المغيبات التي أخفاها الله عنهم ، وأطلعه عليها وأمره ببيانها لهم ، وفسر لهم ـ أيضا ـ كثيرا مما يندرج تحت التفسير الذي تعرفه العلماء ويرجع إلى اجتهادهم (٢).
ثانيا : أدلة الفريقين محجوجة ومفندة :
فأدلة الفريق الأول محجوجة بما يأتي :
استدلالهم بالآية (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) مردود عليه من وجهين :
الأول : أن القول بعموم الآية الشامل لجميع ألفاظ القرآن ومعانيه ليس صحيحا ؛ لقرينتين تفيدان التخصيص :
الأولى : قرينة مقالية تتمثل في قوله عزّ شأنه : (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ
__________________
(١) أخرجه أبو داود (٢ / ٦١٠) كتاب السنة : باب في لزوم السنة حديث (٤٦٠٤) وأحمد (٤ / ١٣١) وابن عبد البر في (التمهيد) (١ / ١٥٠) من طريق عبد الرحمن بن أبي عوف عن المقدام بن معدي كرب عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السباع ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه».
(٢) ينظر : د. الذهبي : التفسير والمفسرون (١ / ٥٥ ، ٥٦).