عرض القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة ؛ لتمام الضبط ، ودقة التجويد وحسن الأداء ، وعرضه بعد ذلك ثلاث مرات ؛ طلبا لتفسيره ومعرفة ما دق من أسراره ، وخفي من معانيه ، كما تشعر بذلك ألفاظ الرواية (١).
ومما يدل على ذلك ـ أيضا ـ ما قاله حبيب بن أبي ثابت : «اجتمع عندي خمسة : طاوس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، وعطاء ، فأقبل مجاهد وسعيد بن جبير يلقيان على عكرمة التفسير ، فلم يسألاه عن آية إلا فسرها لهما ، فلما نفد ما عندهما ، جعل يقول : أنزلت آية كذا في كذا ، وأنزلت آية كذا في كذا» (٢).
ومما يدل على ذلك ـ أيضا ـ ما قاله ابن عباس نفسه عن عطاء بن أبي رباح : «تجتمعون إليّ يا أهل مكة وعندكم عطاء؟!» (٣).
وهذا إن دل على رواية عطاء ، فإنه يدل كذلك على علو قدمه ورسوخها في تفسير القرآن الكريم ، حتى إن ابن عباس ـ وهو حبر الأمة وترجمان القرآن ـ يستنكر على أهل مكة اجتماعهم عليه وبين أظهرهم عطاء بن أبي رباح.
وخلاصة القول : إن المدرسة المكية كانت تعتمد على الرواية في التفسير ، فمثل ما روى الصحابة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم التفسير ، فقد روى أصحاب المدرسة المكية عن صحابة رسول الله صلىاللهعليهوسلم وبالأخص عن ابن عباس رضي الله عنهما.
هذا ، ولم تقتصر روايتهم عن ابن عباس والصحابة وحسب ، بل إنهم رووا عن أهل الكتاب مثلما فعل سلفهم ، لكنهم توسعوا حتى روى الذهبي في ميزانه أن أبا بكر بن عياش قال : قلت للأعمش : ما بال تفسير مجاهد مخالف؟ أو ما بالهم يتقون تفسير مجاهد؟ كما في رواية ابن سعد قال : كانوا يرون أنه يسأل أهل الكتاب (٤).
لكن ينبغي ألا يتوهم من هذه الرواية أن أصحاب هذه المدرسة لم تكن لهم ضوابط في النقل عن أهل الكتاب ، كلا ، فلقد كانوا لا يروون إلا ما يعتقدون صدقه ، ولم يخالف بيّنا مما جاء به محمد صلىاللهعليهوسلم ، وكيف لا يتحرون الدقة في الأخذ عن أهل الكتاب ، ورأس مدرستهم ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ شدد النكير على من يأخذ عنهم أو يصدقهم فيما
__________________
(١) ينظر : د / الذهبي : التفسير والمفسرون (١ / ١٠٦ ، ١٠٧).
(٢) مقدمة فتح الباري ص ٤٥٠.
(٣) التفسير والمفسرون (١ / ١١٥).
(٤) السابق (١ / ١٠٧).