القرآن بالرأي ، ووقف المفسرون بإزاء هذا الموضوع موقفين متعارضين :
فقوم تشددوا في ذلك فلم يجرءوا على تفسير شيء من القرآن ، ولم يبيحوه لغيرهم ، وقالوا : لا يجوز لأحد تفسير شيء من القرآن وإن كان عالما أديبا متسعا في معرفة الأدلة ، والفقه ، والنحو ، والأخبار ، والآثار ، وإنما له أن ينتهي إلى ما روي عن النبي صلىاللهعليهوسلم ، وعن الذين شهدوا التنزيل من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ، أو عن الذين أخذوا عنهم من التابعين.
وقوم كان موقفهم على العكس من ذلك ، فلم يروا بأسا من أن يفسروا القرآن باجتهادهم ، ورأوا أن من كان ذا أدب وسيع فموسع له أن يفسر القرآن برأيه واجتهاده (١).
ثم يقول : «ولو رجعنا إلى هؤلاء المتشددين في التفسير ، وعرفنا سر تشددهم فيه ، ثم رجعنا إلى هؤلاء المجوزين للتفسير بالرأي ، ووقفنا على ما شرطوه من شروط لا بد منها لمن يتكلم في التفسير برأيه وحللنا أدلة الفريقين تحليلا دقيقا ـ يظهر لنا أن الخلاف لفظي لا حقيقي (٢).
ولبيان ذلك ينقل عن القاسمي قوله : الرأي ضربان :
أحدهما : جار على موافقة كلام العرب وموافقة الكتاب والسنة ، فهذا لا يمكن إهمال مثله لعالم بهما ؛ لأمور :
أحدها : أن الكتاب لا بد من القول فيه ببيان معنى واستنباط حكم وتفسير لفظ وفهم مراد ، ولم يأت جميع ذلك عمن تقدم ، فأما أن يتوقف دون ذلك فتتعطل الأحكام كلها أو أكثرها ، فذلك غير ممكن ؛ فلا بد من القول فيه بما يليق.
والثاني : أنه لو كان كذلك للزم أن يكون الرسول صلىاللهعليهوسلم مبينا ذلك كله بالتوقيف.
فلا يكون لأحد فيه نظر ولا قول ، والمعلوم أنه ـ عليهالسلام ـ لم يفعل ذلك فدل على أنه لم يكلف به على ذلك الوجه ، بل بين منه ما لا يتوصل إلى علمه إلا به ، وترك كثيرا مما يدركه أرباب الاجتهاد باجتهادهم فلم يلزم في جميع تفسير القرآن التوقيف.
والثالث : أن الصحابة كانوا أولى بهذا الاحتياط من غيرهم ، وقد علم أنهم فسروا القرآن على ما فهموا ، ومن جهتهم بلغنا تفسير معناه ، والتوقيف ينافي هذا فإطلاق القول
__________________
(١) التفسير والمفسرون (١ / ٢٤٦ ، ٢٤٧).
(٢) التفسير والمفسرون (١ / ٢٥٣).