ومسألة الكسب مسألة كلامية ، وهي مسألة خلافية بين الأشعرية والماتريدية كما سبق بيانها.
وقد اهتم الماتريدي في تفسيره هذا بدحض آراء المعتزلة وتفنيدها ـ اهتماما كبيرا ، والأمثلة على هذا كثيرة ومنتشرة على مدار التفسير ، فمن ذلك ما ذكره في تفسير قوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) [الأنعام : ٦١] حيث قال : «إن الآية دلالة خلق أفعال العباد ؛ لأنه ذكر مجيء الموت وتوفي الرسل ، وقال : خلق الموت والحياة ، ومجيء الموت هو توفي الرسل ثم أخبر أنه خلق الموت دل على أنه خلق توفيهم ؛ فاحتال بعض المعتزلة في هذا ، وقال : إن الملك هو الذي ينزع الروح ويجمعه في موضع ، ثم إن الله يتلفه ويهلكه فلأن كان ما قال ، فإذن لا يموت بتوفي الرسل ؛ لأنهم إذا نزعوا وجمعوا في موضع تزداد حياة الموضع الذي جمعوا فيه ؛ لأنه اجتمع كل روح النفس في ذلك ، فإن لم يكن دل أن ذلك خيال ، والوجه فيه ما ذكرنا من الدلالة ، وهو ظاهر بحمد الله ، يعرفه كل عاقل يتأمل فيه ولم يعاند ، وبالله التوفيق» (١).
ويمكنني القول : إنه في مرآة تفسير الماتريدي انعكس اتجاهه العقدي والمذهبي ، فبرز واحدا من حماة المذهب السني الماتريدي ذائدا عن حصنه ، غيورا على شرف كلمته ، متصديا لأهل الأهواء والبدع ، منازلا المعتزلة والجهمية والخوارج والمرجئة والجبرية وغيرهم ، داحضا آراءهم في ضوء التنزيل الكريم ، ومن ثم كان رائدا لمن جاء بعده من العلماء الذين نقلوا عنه ، ويكفي أن نلقي نظرة على تفسير مثل تفسير النسفي ليتأكد لنا ذلك ، حتى لقد ذكر بعض الباحثين أن النسفي لم يصرح بمصدره الكلامي إلا فيما أخذه عن أبي منصور الماتريدي.
وليتأكد لنا ذلك نعرض لمسألة الجبر والاختيار التي ناقشها الماتريدي عند تفسيره قول الله تعالى : (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) [الأنعام : ١٤٩] فقال :
«قال الحسن : المشيئة ـ هاهنا ـ مشيئة القدرة ، وقال : لو شاء الله قهرهم وأعجزهم حتى لم يقدروا على معصية قط ، على ما جعل الملائكة ـ جبلهم ـ على الطاعة حتى لا يقدروا على معصية قط ، ثم يفضل الملائكة على الرسل والأنبياء والبشر جميعا ، ويقول : هم مجبورون على الطاعة ؛ فذلك تناقض في القول لا يجوز من كان مقهورا مجبورا على
__________________
(١) ينظر : محمود لطفي محمد جاد عبد العاطي : منهج الإمام النسفي في تفسير القرآن ومقارنته بمنهج الزمخشري والبيضاوي وأبي السعود (رسالة دكتوراه ، كلية أصول الدين ، جامعة الأزهر) (ص ٦٥).