(هُدىً) : أى : بيانا ووضوحا ، فلو كان المراد هذا ، فالتّقىّ وغير التّقىّ سواء.
والثانى : هدى أى : رشدا ، وحجة ، ودليلا.
ثم اختلفوا فى الدليل :
فقال الراوندى (١) : الدليل إنما يكون دليلا بالاستدلال ؛ لأنه فعل المستدل. مشتق من الاستدلال ؛ كالضرب من الضارب وغيره.
وقال غير هؤلاء : الدليل بنفسه دليل ، وإن لم يستدل به ؛ لأنه حجة ، والحجة حجة وإن لم يحتج بها. غير أن الدليل يكون دليلا بالاستدلال ، ومن لم يستدل به فلا يكون له دليلا ، وإن كان بنفسه دليلا ، بل يكون عليه عمى وحيرة كقوله : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) [التوبة : ١٢٤] ثم قال : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً) [التوبة : ١٢٤ ـ ١٢٥].
وقوله : (لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ).
قيل : فيه بوجهين :
يؤمنون بالله غيبا (٢) ، ولم يطلبوا منه ما طلبه الأمم السالفة ، من أنبيائهم ؛ كقول بنى إسرائيل لموسى : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) [البقرة : ٥٥].
والثانى (٣) : يؤمنون بغيب القرآن ، وبما يخبرهم القرآن من الوعد والوعيد ، والأمر والنهى ، والبعث ، والجنة ، والنار. والإيمان إنما يكون بالغيب ؛ لأنه تصديق ، والتصديق والتكذيب إنما يكونان عن الخبر ، والخبر يكون عن غيب لا عن مشاهدة.
والآية تنقض قول من يقول : بأن جميع الطاعات إيمان ؛ لأنه أثبت لهم اسم الإيمان دون إقامة الصلاة والزكاة بقوله : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ).
وقوله : (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ).
يحتمل وجهين :
__________________
(١) هو : أحمد بن يحيى بن إسحاق أبو الحسين الراوندى أو ابن الراوندى ؛ فيلسوف مجاهر بالإلحاد.
من سكان بغداد. نسبته إلى (راوند) من قرى أصبهان. قال ابن خلكان : له مجالس ومناظرات مع جماعة من علماء الكلام ، وقد انفرد بمذاهب نقلوها عنه فى كتبهم ، وقال ابن كثير : أحد مشاهير الزنادقة ، وقال ابن حجر العسقلانى : ابن الراوندى الزنديق الشهير كان أولا من متكلمى المعتزلة ثم تزندق واشتهر بالإلحاد ، ويقال كان غاية فى الذكاء. مات برحبة مالك بن طوق (بين الرقة وبغداد) ، وقيل صلبه أحد السلاطين ببغداد ينظر : الأعلام (١ / ٢٦٧ ـ ٢٦٨).
(٢) ذكره البغوى فى تفسيره (١ / ٤٧) مختصرا.
(٣) أخرجه ابن جرير بنحوه عن كل من : ابن عباس وابن مسعود (٢٧٣) ، وزر بن حبيش (٢٧٤) ، وقتادة (٢٧٥) ، والربيع بن أنس (٢٧٦) ، وانظر الدر المنثور للسيوطى (١ / ٦٠).