الخلائق لو اجتمعوا على تصوير صورة من نحو البعوض والذباب ، وتركيب ما يحتاج إليه من الفم والأنف والرجل واليد والمدخل والمخرج ـ ما قدروا ، ولعلهم يقدرون على ذلك فى العظام من الأجسام والكبار منها.
فأولئك لم ينظروا إليها لما فيه من الأعجوبة واللطافة ، ولكن نظروا للحقارة ، والخساسة أنفا منهم وإنكافا.
ثم اختلف أهل الكلام فى إضافة الحياء إلى الله تعالى :
فقال قوم : يجوز ذلك بما روى فى الخبر : «أن الله يستحيى أن يعذب من شاب فى الإسلام» (١) ولأنه يجوز كالتكبر ، والاستهزاء ، والمخادعة ، وقد ذكرنا الوجه فيما تقدم.
وقال آخرون : لا يجوز إضافته إلى الله تعالى ؛ لأن تحته الإنكاف والأنفة ، وذلك عن الله تعالى منفىّ ، ولكن الحياء هو الرضاء هاهنا ، والحياء الترك ؛ أى : لا يترك ولا يدع.
وقوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ).
أى : علموا أن ضرب المثل بما ذكر من صغار الأجسام والجثة حق ؛ لما نظروا إلى ما فيها من الأعجوبة والحكمة واللطافة.
وقوله : (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً).
لم ينظروا فيها لما فيها من الأعجوبة والحكمة ، ولكن نظروا للخساسة والحقارة.
وقوله : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً).
الآية تنقض على المعتزلة قولهم ؛ لأنه جواب قولهم : (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) فقال : أراد أن يضل بهذا المثل كثيرا ، وأراد أن يهدى به كثيرا ، أضل به من علم منه أنه يختار الضلالة ، ويهدى به من علم أنه يختار الهدى ، أراد من كل ما علم منه أنه يختار ويؤثر ، والله أعلم.
وهم يقولون : بل أراد أن يهدى به الكلّ ، ولكنهم لم يهتدوا.
والثانى : يضلّ به كثيرا ؛ أى : خلق فعل الضلالة من الضال ، وخلق فعل الاهتداء من المهتدى. وقد ذكرنا فيما تقدم.
وقوله : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ).
__________________
(١) ذكره العجلونى فى كشف الخفاء (١ / ٢٨٤) بلفظ :
«إن الله يستحيى أن يعذب شيبة شابت فى الإسلام».
وقال : هكذا ذكره الغزالى فى الدرة الفاخرة ، ورواه السيوطى فى الجامع الكبير عن ابن النجار بسند ضعيف بلفظين آخرين ... فذكرهما.