دليله قوله عزوجل : ـ (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) [الأعراف : ١٤٩]. ظهر بهذا : أنهم تابوا قبل أن يؤمروا بالقتل.
وقد شرع على ألسن الرسل : قتال الكفرة حتى يسلموا ؛ فلا يجوز ذلك إن أسلموا ، فيحصل الإرسال للقتل خاصة ، لا للدين ، والله أعلم.
ولأن القتل هو عقوبة الكفر ، لا عقوبة الإسلام ، وخاصة قتل استئصال ، على ما روى فى الخبر : أن قتل سبعون ألفا فى يوم واحد (١).
وذلك استئصال وإهلاك ، ولم يهلك الله قوما إلا فى حال الكفر والعناد ؛ إذ الإسلام سبب درء القتل وإسقاطه ؛ لأن من يقتل لكفره إذا أسلم سقط القتل عنه وزال ، وكذلك إذا أسلم وتاب ومات عليه ، لم يعاقب فى الآخرة لكفره فى الدنيا.
فعلى ذلك : يجب ألا يعاقب هؤلاء فى الدنيا ـ بالقتل ـ بعد التوبة والرجوع إلى عبادة الله وطاعته.
ويصرف الأمر بالقتل ، إلى إجهاد أنفسهم بالعبادة لله ، والطاعة له ، واحتمال الشدائد والمشقة ؛ لتفريطهم فى عصيان ربهم ، باتخاذهم العجل إلها ، وبعبادتهم إياه دون الله.
وذلك جار فى الناس ، يقال : فلان يقتل نفسه فى كذا ، لا يعنون حقيقة القتل (٢) ، ولكن : إجهاده نفسه فى ذلك ، وإتعابه إياها ، واحتمال الشدائد والمشقة فيه.
فعلى ذلك ، يصرف الأمر بقتل أنفسهم إلى ما ذكر ، بالمعنى الذى وصفنا ، والله أعلم.
ثم صرف ذلك إلى حقيقة القتل احتمل وجهين :
أحدهما : أن يجعل ذلك ابتداء محنة من الله ـ تعالى ـ لهم بالقتل ، لا عقوبة لما سبق من العصيان.
ولله أن يمتحنهم ـ ابتداء ـ بقتل أنفسهم ؛ كقوله : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ) الآية [النساء : ٦٦] على تأويل كثير من المتأولين فى ذلك ؛ إذ له أن يميتهم بجميع أنواع الإماتة.
فعلى ذلك : له أن يأمر بقتل أنفسهم ، وفيه إماتة ، مع ما فيه الاستسلام لعظيم ما دعوا إليه ، من بذل النفس لله ، مما فى مثله جعل وفاء إبراهيم الأمر بالذبح ، وبذل ولده النفس
__________________
(١) أخرجه ابن جرير عن ابن عباس (٩٣٧ ، ٩٤٤) ، وانظر الدر المنثور (١ / ١٣٥).
(٢) فى أ : الأمر.