أحدهما : أنه كأنهم طبعوا على أخلاق البهائم والدواب.
وذلك أن موسى صلىاللهعليهوسلم استنقذهم من خدمة فرعون وآله ، ونجاهم من الشدائد التى كانت عليهم ، ولحوق الوعيد بهم ، وأراهم من الآيات العجيبة : من آية العصا ، واليد البيضاء ، وفرق البحر ، وإهلاك العدو فيه ، وتفجير الأنهار من حجر واحد ، وغير ذلك من الآيات ما يكثر ذكرها ، أن لو كانت واحدة منها لكفتهم ، ودلتهم على صدقه ونبوته.
ثم ـ مع ما أراهم من الآيات ـ إذا فارقهم ، دعاهم السامرى إلى عبادة العجل ، واتخاذه إلها ، كقوله : (هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ) [طه : ٨٨] فأجابوه إلى ذلك ، وأطاعوه.
وكان هارون ـ صلوات الله على نبينا وعليه ـ فيهم ، يقول : (يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي) [طه : ٩٠] ، فلم يجيبوه ولا صدقوه ، ولا اكترثوا إليه ، مع ما كان هارون من أحب الناس إليهم.
فلو لا أنهم كانوا مطبوعين على أخلاق البهائم والدواب ، وإلا ما تركوا إجابته ، ولا عبدوا العجل ، مع ما أروا من الآيات التى ذكرنا.
فإذا كان إلى هذا يرجع أخلاقهم لم يبالوا ببذل أنفسهم للقتل ، والله أعلم ، ونحو ذلك قوله : (قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) [الأعراف : ١٣٨].
وعلى ذلك جعلت آيات موسى كلها حسية لا عقلية ؛ إذ عقولهم كادت تقصر عن فهم المحسوس ودركه ، فضلا عن المستدل عليه ، والله أعلم.
والثانى : يحتمل أن أروا ثواب صبرهم على القتل فى الآخرة ، وجزيل جزائهم ، وكريم مآبهم ؛ فهان ذلك عليهم وخف.
كما روى أن امرأة فرعون لما علم فرعون ـ لعنه الله ـ بعبادتها ربها ، وطاعتها له ، أمر أن تعاقب بأشد العقوبات ، ففعل بها فضحكت فى تلك الحال ، لما أريت مقامها فى الجنة ، وكريم مآبها ؛ فهان ذلك عليها وسهل.
فعلى ذلك يحتمل بذل هؤلاء أنفسهم للقتل ، والصبر عليه لذلك ، والله أعلم.
وقوله : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً).
قال بعضهم (١) : قال الذين اختارهم موسى ـ وكانوا سبعين رجلا ـ لن نصدقك بالرسالة والتوراة حتى نرى الله جهرة ، يخبرنا أنّه أنزلها عليك.
__________________
(١) ذكره السيوطى فى الدر (١ / ١٣٦) وعزاه لابن جرير وابن أبى حاتم عن الربيع بن أنس بنحوه.