هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ).
قال بعضهم : كفروا بهذا القول ؛ لأنهم سمّوه هازئا ، ومن سمّى رسولا من الرسل هازئا يكفر ؛ ألا ترى أنهم قالوا فى الآخر : (الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ)؟! دل أن ما قال لهم أول مرّة ليس بحق عندهم.
وليس هذا بشيء. ولا يحتمل ما قالوا.
ولكن يحمل على المجازاة ، كأنهم قالوا : أتجازينا بهذا لما مضى منا وسبق من العصيان بك ، والخلاف لك؟! لما لم يعلموا أنه من عند الله يأمر بذلك.
وهذا وأمثاله على المجازاة جائز على ما ذكرنا من الاستهزاء ، والمخادعة ، والمكر ، كله على المجازاة جائز.
وكقول نوح لقومه : (فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ) [هود : ٣٨] على المجازاة [جائز على ما ذكرنا من الاستهزاء](١) ؛ فكذلك الأول.
وأما الاستهزاء فيما بين الخلق فهو جهل يسخر بعضهم ببعض ؛ لجهل بأحوال أنفسهم ؛ إذ كلهم سواء من جهة الجوهر والخلقة ، وتركيب الجوارح ، وتصوير الصّور ، وتمثيلها.
ألا ترى : أن موسى أجاب لهم عن الهزء بالجهل ، فقال : (أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ)؟!
دل أن الهزء فى الخلق لجهل فيهم ، وبالله التوفيق.
ثم استدل قوم بهذه الآية على : عموم الخطاب وقت قرع السمع ؛ لأنه أمرهم بذبح بقرة لم يبين لهم كيفيّتها ، ولا ماهيتها وقت الخطاب ، إلا بعد البحث والسؤال عنها ؛ فثبت أنه على العموم.
ألا ترى ما روى فى الخبر : «لو عمدوا إلى أدنى بقرة لأجزأتهم ، لكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم» (٢).
لكن هذا لا يصح ؛ لأنه دعوى على الله ، لحدوث شىء فى أمره ، وبدوّ فى حكمه ، فذلك كفر ، لا يقوله مسلم ، فضلا عن أن يقول به رسول من الرسل.
__________________
(١) ما بين المعقوفين سقط فى ط.
(٢) أخرجه البزار وابن أبى حاتم وابن مردويه من طريقين عن أبى هريرة بنحوه ، وأخرجه الفريابى وسعيد ابن منصور وابن المنذر عن عكرمة مرسلا ، وأخرجه ابن جرير عن ابن جريج وقتادة مرسلا كما فى الدر المنثور (١ / ١٥٠).