بقوله : (حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ).
قيل : صدقتم فى زعمكم بأن الحسد ليس من عند الله ، وكذلك نقول ، ولا نجيز إضافة الحسد إليه بحال ولكن نقول : خلق فعل الحسد من الخلق ، وكذلك يقال فى الأنجاس ، والأقذار ، والحيّات والعقارب ونحوها : إنه لا يجوز أن تضاف إلى الله تعالى فيقال : يا خالق الأنجاس والحيات والعقارب ، وإن كان ذلك كله خلقه ، وهو خالق كل شىء.
فعلى ذلك ، نقول بخلق فعل الحسد ، وفعل الكفر من العبد ، ولا نجوّز أن يضاف إلى الله تعالى.
ثم يقولون فى الطاعات والخيرات كلها : إنها من عند الله ، غير مخلوقة ، فلئن كانت
__________________
ـ والأصل فى تحريمه الكتاب والسنة والمعقول :
أما الكتاب : فقوله تعالى : (وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ) [الفلق : ٥] فقد أمرنا الله ـ سبحانه وتعالى ـ بالاستعاذة من شر الحاسد ، وشره كثير ، فمنه ما هو غير مكتسب وهو إصابة العين ، ومنه ما هو مكتسب كسعيه فى تعطيل الخير عنه وتنقيصه عند الناس ، وربما دعا عليه أو بطش به إلى غير ذلك. وقد اختلف أهل التأويل فى الحاسد الذى ورد الأمر بالاستعاذة من شره : فقال قتادة : المراد : شر عينه ونفسه. وقال آخرون : بل أمر النبى صلىاللهعليهوسلم بهذه الآية أن يستعيذ من شر اليهود الذين حسدوه ، والأولى بالصواب فى ذلك ـ كما قال الطبرى ـ : أن النبى صلىاللهعليهوسلم أمر بأن يستعيذ من شر كل حاسد إذا حسد. وإنما كان ذلك أولى بالصواب ؛ لأن الله ـ عزوجل ـ لم يخصص من قوله : (وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ) [الفلق : ٥] حاسدا دون حاسد ، بل عم أمره إياه بالاستعاذة من شر كل حاسد فذلك على عمومه. والحاسد كما قال القرطبى عدو نعمة الله. قال بعض الحكماء : بارز الحاسد ربه من خمسة أوجه : أحدها : أنه أبغض كل نعمة ظهرت على غيره. ثانيها : أنه ساخط لقسمة ربه كأنه يقول : لم قسمت هذه القسمة؟ ثالثها : أنه ضاد فعل الله ، أى : أن فضل الله يؤتيه من يشاء ، وهو يبخل بفضل الله. ورابعها : أنه خذل أولياء الله ، أو يريد خذلانهم وزوال النعمة عنهم. وخامسها : أنه أعان عدوه إبليس.
وأما السنة فقوله صلىاللهعليهوسلم : «إياكم والحسد ؛ فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب أو العشب».
وأما المعقول فإن الحاسد مذموم ، فقد قيل : إن الحاسد لا ينال فى المجالس إلا ندامة ، ولا ينال عند الملائكة إلا لعنة وبغضاء ، ولا ينال فى الخلوة إلا جزعا وغما ، ولا ينال فى الآخرة إلا حزنا واحتراقا ، ولا ينال من الله إلا بعدا ومقتا. ويستثنى من تحريم الحسد ما إذا كانت النعمة التى يتمنى الحاسد زوالها عند كافر أو فاسق يستعين بها على معاصى الله تعالى.
أما إذا كان الحسد مجازيّا ـ أى بمعنى الغبطة ـ فإنه محمود فى الطاعة ، ومذموم فى المعصية ، ومباح فى الجائزات ، ومنه قوله صلىاللهعليهوسلم : «لا حسد إلا فى اثنتين : رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار ، ورجل أتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار» أى : كأنه قال : لا غبطة أعظم أو أفضل من الغبطة فى هذين الأمرين.
ينظر : تفسير الطبرى (٣٠ / ٢٢٨) ، صحيح مسلم بشرح النووى (٦ / ٩٧) ، فيض القدير (٣ / ١٢٥) ، فتح البارى (١ / ١٦٧).