يحتمل هذا وجهين :
يحتمل : أن قالوا ذلك جميعا ؛ لما أرادوا أن يروا الناس الموافقة فيما بينهم ؛ ليرغبوا فى دينهم ، وينفروا عن دين الإسلام ، وإن كانوا هم ـ فى الباطن ـ على الخلاف والعداوة.
ويحتمل : أن يكون ذلك القول من كل فريق فى نفسه ، لا عن كل الفريقين جميعا على الموافقة.
دليله : قوله : (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ) دلت الآية أن ذلك القول لم يكن من الفريقين جميعا على الموافقة ، ولكن كان من كلّ فى نفسه على غير موافقة منهم ولا مساعدة ، والله أعلم.
ثم فى الآية دليل ، لزم الدليل على النّافى ؛ لأنهم نفوا دخول غيرهم الجنّة بقولهم : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) فطولبوا بالبرهان بقوله : (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أنه لا يدخل فيها سواكم.
فإن قيل : إنهم إذا نفوا دخول غيرهم فيها ادعوا لأنفسهم الدخول ، فإنما طولبوا بالبرهان على ما ادعوا ، ليس على ما نفوا.
قيل : لا يحتمل ذا ؛ لأنهم لم يذكروا دخول أنفسهم تصريحا ، إنما نفوا دخول غيرهم وهو كمن يقول : لا يدخل هذه الدار إلا فلان وفلان ، ليس فيه أن فلانا وفلانا يدخلان ولكن فيه نفى دخول غيرهما.
أو نقول : نفوا دخول غيرهم تصريحا ، وادعوا لأنفسهم الدخول مستدلا ، وإنما يطلب الحجة على مصرّح قولهم ، لا على مستدلّهم.
ألا ترى أن الجواب من الله ـ عزوجل ـ بالإكذاب والرد عليهم خرج على ما نفوا دخول غيرهم ، وهو قوله : (بَلى) ـ يدخل الجنة ـ (مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ).
ألا ترى إلى ما روى عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «لا نكاح إلا بشهود» (١) ليس فيه
__________________
(١) ذكره الزيلعى فى نصب الراية (٣ / ١٦٧) ، وقال : غريب بهذا اللفظ. قلت : وفى الباب عن عائشة : أخرجه ابن حبان (٤٠٧٥ ـ الإحسان) ، والدار قطنى (٣ / ٢٢٦ ـ ٢٢٧) ، والبيهقى (٧ / ١٢٤ ـ ١٢٥) من طريق عروة عنها بلفظ :
«لا نكاح إلا بولى وشاهدى عدل ، وما كان من نكاح على غير ذلك فهو باطل ، فإن تشاجروا فالسلطان ولى من لا ولى له».
قال ابن حبان : لم يقل أحد فى خبر ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهرى هذا «وشاهدى عدل» إلا ثلاثة أنفس : ـ