وجل ـ لم يقطع عليهم كل المخارج ، بل جعل لهم فى كل نوع من ذلك مسلكا وإن كان فى ذلك نقصا وضررا ، وجائز بلوغ ذلك تمام ما فى كل نوع ، لكنه بلطفه قرب إليهم فيما خوفهم وجه الرجاء ، وعلى ذلك جميع الفعال ذى المحن أنها مقرونة بالخوف والرجاء ، وكذلك هم فى أنفسهم. ولا قوة إلا بالله.
ثم إن الله دلهم على ما عليهم من الحق فيما أخبر أنه يبلوهم به بحرف البشارة والوعد الجزيل الذى يسهل بمثله البذل لمن لا حق له ، فكيف ومن له كليته ذلك ؛ فقال الله تعالى : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ). ثم وصف الصابرين فقال : (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) هدى الله عبده إلى الاعتماد بحرف التوحيد عند المصيبة ؛ إذ جعل التوحيد داخلا فى ذلك الحرف.
وفيه التبرى من أن يكون له فى حكم الله تدبيرا ورأى ، وبذل النفس له وما للنفس ليحكم فيها بما شاء.
وقوله : (إِنَّا لِلَّهِ) ، كأنه قال : ما لنا فيما ليس لنا حكم ولا تدبير ، وأبدا يكون الحكم فى كل ملك لمن يملكه. وبمثل هذا يقدر على كف الأنفس عن الجزع وحملها على ما يكره.
وقوله : (وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) ، فكأنه يقول إذ إليه مرجعنا ، لا فرق أن نرجع إليه جملة أو بالتفاريق ، بل فى التفريق علينا الإبقاء وفضل القبول منا البعض دون الكل.
وفى ذلك تذكير النفس عاقبتها ليكون كمن تقدم شيئا مما به قوامه إلى مكان قراره ، وقد انتهى الخبر بالبلوغ.
فمعلوم أن ذلك أطيب لنفسه ، وأسكن بقلبه من أن يكون جميع ذلك معه. وبالله التوفيق. وجملة ذلك أن هذه الدنيا أنشئت لا لها ولكن ليكتسب بها الآخرة ، وجعل كل شىء منها زائلا فانيا لينال به الدائم الباقى.
فهذا لأن حق كل فيما يصيبه أن يرى الذى أنشئ وما له يسعى ، فيعلم أنه بلغ فى تجارته غايتها من الربح ، وأنه باع الشىء الفانى بالباقى ، مع ما كان كل شىء من الدنيا مأوى بآفات الفناء والهلاك ، فأبدل المأوى بالذى لا آفة فيه. فيجب فى التدبير ألا يعد ذا مصيبة ، بل هو أعلى السرور وأرفع الربح ، لكن البشر جبل على طباع نافرة عن كل ألم جاهل بالعواقب التى لعلها يرغب فيها كل أحد ، لا أن ينفر عنها. والله المستعان.
فإن قال قائل : هذا الاسترجاع خص به هذه الأمة ؛ إذ قال يعقوب : (يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) [يوسف : ٨٤] الآية. فهو والله أعلم ، إن كان فهو موضع التلقين والتعليم أن