وكرمه يعامل عبيده معاملة من ليس له ما كان يطلب منه ويأمره به ، فقال : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [التوبة : ١١١] ، وقال : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً) [المزمل : ٢٠] ليكون ذلك أطيب لأنفسهم وأرغب لهم فى البذل لما طلب منهم ، وإن كان له أخذ ذلك منهم بلا شىء يعدهم عليه ، فعلى ذلك قال ـ عزوجل ـ : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) بالذى ذكر ، يدلهم على أن ذلك منه ؛ ليعلموا أنه فيما كان وعد الاشتراء منهم ، وطلب منهم البذل بجزيل العوض لهم ، فيخف ذلك عليهم وتطيب به أنفسهم ، وأن يكون يذكر أولا أنه يبتليهم بالذى ذكر ليطيبوا أنفسهم به ، ولا يتكلفوا ذلك من قلوبهم ، فيضجرون عند الابتلاء بذلك ، وكذا كل خلاف للطبع إذا كان عن رياضته إياه وإشعاره به قبل النزول ، كان ذلك أيسر عليه من أن يأتيه ذلك من حيث لم يعلم به ، مع ما كان فى ذلك خطر بالقلوب نسبة مثله إلى الخلق والتشاؤم بهم ، فقدم الله فى ذلك البيان ليعلموا أن ذلك بالذى جرى به الوعد ، وذلك كقوله : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ) [الحديد : ٢٢] ، الآية ، فبين أن ذلك مكتوب عليهم لتطيب الأنفس وتطمئن القلوب عليه.
والأصل فى هذا : أن جميع ما ذكر البلوى به فى التحقيق ليس بحق للعبد ، بل هو امتنان من الله وإفضال منه ، وأنه لم ينشئه ولا أحياه نشوء الأبدية ولا حياة السرمدية ، فعلى ذلك جميع ما أنعم عليه ، وإذا سكن العبد على هذا الذى جبل عليه أمر نفسه وما ملك عليه سهل عليه ذهابه ، وطابت به نفسه ، مع ما يعلم أنه أنعم عليه لوقت ، ثم هو نعمة على غيره ولغيره ، فيكون المأخوذ منه فى الحقيقة لغيره ، وإن كان الله عزوجل ذكره فى الابتلاء والمصائب ، فهو على ما أخبرت من كرمه فيما يعامل عبيده عزوجل. ولا قوة إلا بالله.
ثم بين الله عزوجل ما يكرمهم ؛ إذا خضعوا لحكمه (١) ورضوا لقضائه ، مع ما دل عليه أيضا بقوله : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ...) الآية [الأحزاب : ٣٦] ، فقال : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) ، وقال فى موضع آخر : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) [الزمر : ١٠] ، فكان من فضله أن سمى ما وعدهم على الصبر أجرا ، ومعلوم أن كان ذلك حقّا لله عليهم ، بالسابق من نعمه ، مع عظم مننه ، لكنه سمى ما أفضل به أجرا له ، مع ما كان العبد
__________________
(١) فى ط : خنعوا لحكمه.