والثانى : أن كل واحد منهما ، أعنى الليل والنهار ، يصير بمجيء الآخر مغلوبا ، فلو لا أن كان ثم لغير فيه تدبير ، وإلا ما احتمل أن يصير مغلوبا بعد ما كان غالبا ، فدل أن لهما محدثا ، وأنه واحد.
فيه دلالة البعث والحياة بعد الموت ؛ لأن الليل يأتى على النهار فيتلفه ويذهب به حتى لا يبقى فيه من أثر النهار شىء ، وكذلك النهار يأتى على الليل فيتلفه حتى لا يبقى من أثر الليل شىء. ثم وجد بعد ذلك كل واحد منهما على ما وجد فى النشوء من غير نقصان ولا تفاوت. فدل أنه قادر على إنشاء ما أماته وأتلفه ، وإن لم يبق له أثر ، على ما قدر من إيجاد ما أتلف ، وإنشاء ما أذهب من الليل بالنهار ، ومن النهار بالليل ، وإن لم يبق له أثر.
وقوله : (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) ، وقيل : اختلافهما لما جعل أحدهما مظلما والآخر مضيئا.
وقيل : اختلافهما لنقصانهما وزيادتهما ، إذ ما ينتقص من أحدهما يزداد فى الآخر ، فدل انتقاصهما وزيادتهما على أن منشئهما واحد ؛ لأنه لو كان من اثنين لمنع كل واحد منهما صاحبه من الزيادة والنقصان ، وبالله التوفيق ، ولتغير التدبير ، ولا يجرى كل عام الأمر فيه على ما جرى عليه فى العام الأول.
وقوله : (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) فالآية تنقض على المعتزلة قولهم ؛ لأنه عزوجل جعل الفلك التى تجرى فى البحر من آياته. والمعتزلة جعلوها من آيات البحارين ؛ لأن الفلك قبل أن يعمل فيها وينحت لا تسمى فلكا ، ولكن يسمى خشبا ، فلو لم يكن عمل العباد وفعلهم فيها من مصنوعه ومخلوقه ، لزال به موضع الحجاج وتسميته باسم الآيات ؛ فدل أن له فيها صنعا وتقديرا حيث صار من عجيب آياته.
ثم فيه أعجوبة ، وهو أن الطباع تنفر من مغافصة البحر بالاطلاع على أمواجه وأهواله ، وأراهم من عظم آياته مما يجريه فى البحر على الحفظ والأمر الواقع لهم ؛ فدل أنه من عند قادر لطيف خبير.
وفيه أيضا دلالة وحدانيته ؛ وذلك أن أهل البر لهم الانتفاع بأهل البحر ، ولأهل البحر الانتفاع بأهل البر على بعد ما بينهما وتضادهما ؛ فدل أن محدثهما واحد.
ثم فيه دلالة إباحة التجارات مع الخطرات على احتمال المشقات وتحمل المؤنات.
وفى ذلك دلالة النبوة ؛ لأن يعلم أن اتخاذ السفن وبما فيه من المنافع لا يقوم له تدبير البشر ، ثبت أنه علم ذلك ممن علم جواهر الأشياء ، وما يصلح الأشياء وما لا يصلح ، وفى الحاجة إلى ذلك إيجاب القول بالرسالة للبشر.