والغرامة نوع من العقوبات ، فإذا استويا فى سقوط الغرامة ـ وإن كان أحدهما ظالما ـ كيف لا استويا أيضا فى هذا؟ وما الذى يوجب التفرقة بينهما؟
ثم نقول لهذا المخالف لنا : إن الباغى المقيم يمسح يوما وليلة ، وإذا سافر لم يرخص له المسح. وهو فى الحضر رخصة كهى فى السفر. فما باله حرم إحدى الرخصتين على إباحة الأخرى مع وجود الظلم والبغى؟ فقال : لأن الضرورة طريق التناول فيه رخصة ، لا ترخص الظالم ، إذ هو تخفيف.
والأصل فى المسألة أن الباغى على أهل الإسلام لا يأتمر بأحكام أهل الإسلام ؛ إذ لو ائتمر أمر بالكف عن بغيه. وإذا لم يأتمر فى ذا ، لا شك أنه لا يأتمر فى الثانى ، ولا يؤمر بما فيه العبث ، ولا يزجره التحريم عن التناول ، إذ على العلم بحرمة البغى بغى ما اشتهت نفسه ، فكيف ينتهى للحرمة فيما اضطرت إليه نفسه؟ ولم يملك الغلبة عليها فى شهوتها إيثارا لها ، كذلك إنظارا لها للكف لا معنى لإحداث الحرمة عليه ببغيه.
__________________
ـ ضمان. واستظهر الزيلعى وابن عابدين حمل الضمان على ما قبل تحيزهم وخروجهم ، أو بعد كسرهم وتفرق جمعهم.
ونقل الزيلعى عن المرغينانى : أن العادل إذا أتلف نفس الباغى أو ماله لا يضمن ولا يأثم ؛ لأنه مأمور بقتالهم دفعا لشرهم. وفى (المحيط) : إذا أتلف مال الباغى يؤخذ بالضمان ؛ لأن مال الباغى معصوم فى حقنا ، وأمكن إلزام الضمان ، فكان فى إيجابه فائدة.
وإذا أتلف أهل البغى لأهل العدل مالا فلا ضمان عليهم ؛ لأنهم طائفة متأولة فلا تضمن كأهل العدل ؛ ولأنه ذو منعة فى حقنا ، وأما الإثم فإنه لا منعة له فى حق الشارع ، ولأن تضمينهم يفضى إلى تنفيرهم عن الرجوع إلى الطاعة ؛ لما رواه عبد الرزاق بإسناده عن الزهرى ، أن سليمان بن هشام كتب إليه يسأله عن امرأة خرجت من عند زوجها ، وشهدت على قومها بالشرك ، ولحقت بالحرورية فتزوجت ، ثم إنها رجعت إلى أهلها تائبة ، قال فكتب إليه : أما بعد ، فإن الفتنة الأولى ثارت وأصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ـ ممن شهد بدرا ـ كثير ، فاجتمع رأيهم على ألا يقيموا على أحد حدّا فى فرج استحلوه بتأويل القرآن ، ولا قصاصا فى دم استحلوه بتأويل القرآن ، ولا يرد مال استحلوه بتأويل القرآن ، إلا أن يوجد شىء بعينه فيرد على صاحبه ، وإنى أرى أن ترد إلى زوجها ، وأن يحد من افترى عليها.
وفى قول للشافعى : يضمنون ؛ لقول أبى بكر : «تدون قتلانا ، ولا ندى ـ من الدية ـ قتلاكم» ، ولأنها نفوس وأموال معصومة أتلفت بغير حق ولا ضرورة دفع مباح ؛ فوجب ضمانه ، كالتى أتلفت فى غير حال الحرب. وإذا تاب البغاة ورجعوا أخذ منهم ما وجد بأيديهم من أموال أهل الحق ، وما استهلكوه لم يتبعوا به ، ولو كانوا أغنياء ؛ لأنهم متأولون.
وإذا قتل الباغى أحدا من أهل العدل فى غير المعركة يقتل به ؛ لأنه قتل بإشهار السلاح والسعى فى الأرض بالفساد كقاطع الطريق ، وقيل : لا يتحتم قتله ، وهو الصحيح عند الحنابلة ؛ لقول على ـ رضى الله عنه ـ : (إن شئت أن أعفو ، وإن شئت استقدت).
ينظر : حاشية الدسوقى (٤ / ٣٠٠) ، والتاج والإكليل (٦ / ٢٧٨ ـ ٢٧٩) ، حاشية ابن عابدين (٣ / ٣١٢) ، تبيين الحقائق (٣ / ٢٩٦) ، المغنى (٨ / ١١٣).