ثم المسألة فى الباغى والعادى : يحرم عليه التناول منها فى حال الاضطرار أم لا؟
قال بعض أهل العلم : محرم ذلك عليه لأوجه :
أحدها : لأنه ظالم. وفى المنع عن التناول منها زجر عن الظلم ، وفى إباحة التناول منها إعانة على الظلم ، لذلك حرم عليه.
والثانى : أن القاتل عوقب عند ما يأوى إلى الحرم بترك المؤاكلة والمشاربة والمجالسة إلى أن يضطر فيخرج عقوبة له. فكذلك هذا يحرم عليه التناول منه عقوبة له إلى أن ينزجر.
وقال : إنه قد استحق بالبغى على أهل الإسلام العقوبة العظيمة ، ويعاقب بهذا أيضا.
ثم من قول هذا الرجل فى الباغى : أنه إذا أتلف أموال أهل العدل لا يتعرض له بها ولا يغرم. وكذلك العادل إذا أتلف أموال أهل البغى (١) لا غرامة عليه (٢).
__________________
(١) البغى حرام ، والبغاة آثمون ، ولكن ليس البغى خروجا عن الإيمان ؛ لأن الله سمى البغاة مؤمنين فى قوله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ ...) إلى أن قال : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) ، ويحل قتالهم ، ويجب على الناس معونة الإمام فى قتالهم. ومن قتل من أهل العدل أثناء قتالهم فهو شهيد. ويسقط قتالهم إذا فاءوا إلى أمر الله ، ويقول الصنعانى : إذا فارق أحد الجماعة ولم يخرج عليهم ولا قاتلهم يخلى وشأنه ؛ إذ مجرد الخلاف على الإمام لا يوجب قتال المخالف. وفى حديث رواه الحاكم وغيره قال النبى ـ عليه الصلاة والسلام ـ لابن مسعود : «يا ابن مسعود : أتدري ما حكم الله فيمن بغى من هذه الأمة؟» قال ابن مسعود : الله ورسوله أعلم. قال : «حكم الله فيهم ألا يتبع مدبرهم ، ولا يقتل أسيرهم ، ولا يذفّف على جريحهم». ويرى الشافعية أن البغى ليس اسم ذم ؛ لأن البغاة خالفوا بتأويل جائز فى اعتقادهم ، لكنهم مخطئون فيه ، فلهم نوع عذر ؛ لما فيهم من أهلية الاجتهاد. وقالوا : إن ما ورد فى ذمهم ، وما وقع فى كلام الفقهاء فى بعض المواضع من وصفهم بالعصيان أو الفسق ـ محمول على من لا أهلية فيه للاجتهاد ، أو لا تأويل له. وكذلك إن كان تأويله قطعى البطلان.
ينظر : سبل السلام (٣ / ٤٠٩) ، وروح المعانى (٢٦ / ١٥١).
(٢) اتفق الفقهاء على أن أموال البغاة لا تغنم ، ولا تقسم ، ولا يجوز إتلافها ، وإنما يجب أن ترد إليهم. لكن ينبغى أن يحبس الإمام أموالهم دفعا لشرهم بكسر شوكتهم حتى يتوبوا ، فيردها إليهم لاندفاع الضرورة ، ولأنها لا استغنام فيها ، وإذا كان فى أموالهم خيل ونحوها ـ مما يحتاج فى حفظه إلى إنفاق ـ كان الأفضل بيعه وحبس ثمنه. وفى ضمان إتلاف مالهم كلام ؛ فإن العادل إذا أتلف نفس الباغى أو ماله حال القتال بسبب القتال أو ضرورته لا يضمن ؛ إذ لا يمكن أن يقتلهم إلا بإتلاف شىء من أموالهم كالخيل ، فيجوز عقر دوابهم إذا قاتلوا عليها ، وإذا كانوا لا يضمنون الأنفس فالأموال أولى. أما فى غير حال القتال وضرورته فلا تحرق مساكنهم ، ولا يقطع شجرهم ؛ لأن الإمام إذا ظفر لهم بمال حال المقاتلة فإنه يحبسه حتى يرد إليهم ، فلا تؤخذ أموالهم ؛ لأن مواريثهم قائمة ، وإنما قوتلوا بما أحدثوا من البدع ، فكان ذلك كالحد يقام عليهم. وقيد الماوردى الضمان بما إذا كان الإتلاف خارج القتال بقصد التشفى والانتقام ، أما إذا كان لإضعافهم أو هزيمتهم فلا ـ