أحلّ الله به الذلّ والصغار والدمار ، وأخزاه ولعنه إلى يوم القيامة ، علمنا بذلك رتبة الإمام وفضله ، وأنّ الله تبارك وتعالى لمّا أعلم الملائكة أنّه جاعل في الأرض خليفة. أشهدهم على ذلك لأنّ العلم شهادة ، فلزم من ادّعى أنّ الخلق يختار الخليفة أن تشهد ملائكة الله كلهم عن آخرهم عليه ، والشهادة العظيمة تدل على الخطب العظيم كما جرت به العادة في الشاهد ، فكيف وأنّى ينجو صاحب الاختيار من عذاب الله وقد شهدت عليه ملائكة الله أوّلهم وآخرهم ، وكيف وأنّى يعذّب صاحب النصّ وقد شهدت له ملائكة الله كلّهم.
وله وجه آخر ، وهو أنّ القضيّة في الخليفة باقية إلى يوم القيامة ، ومن زعم أنّ الخليفة أراد به النبوة ، فقد أخطأ من وجه ،
وذلك أنّ الله عزوجل وعد أن يستخلف من هذه الأمّة الفاضلة خلفاء راشدين كما قال جلّ وتقدّس : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً)(١) ولو كانت قضيّة الخلافة قضيّة النبوّة ، أوجب حكم الآية أن يبعث الله عزوجل نبيّا بعد محمّد صلىاللهعليهوآله ، وما صحّ قوله : (وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ)(٢) فثبت أنّ الوعد من الله عزوجل ثابت من غير النبوّة ، وثبت أنّ الخلافة تخالف النبوّة بوجه ، وقد يكون الخليفة غير نبيّ ، ولا يكون النبيّ إلّا خليفة.
وآخر : وهو أنّه عزوجل أراد أن يظهر استعباده الخلق بالسجود لآدم عليهالسلام نفاق المنافق وإخلاص المخلص ، كما كشفت الأيّام والخبر عن قناعيهما ، أعني ملائكة الله والشيطان ، ولو وكّل ذلك المعنى ـ من اختيار الإمام ـ إلى من أضمر سوءا ، لما كشفت الأيّام عنه بالتعرّض ، وذلك أنّه يختار المنافق من سمحت نفسه بطاعته والسجود له ، فكيف وأنّى يوصل إلى ما في الضمائر من النفاق والإخلاص والحسد والداء الدفين.
ووجه آخر : وهو أنّ الكلمة تتفاضل على أقدار المخاطب والمخاطب ، فخطاب الرجل عبده يخالف خطاب سيّده ، والمخاطب كان الله عزوجل ، والمخاطبون ملائكة الله أوّلهم وآخرهم ، والكلمة العموم لها مصلحة عموم ، كما أنّ الكلمة الخصوص لها مصلحة
__________________
(١) النور : ٥٥.
(٢) الأحزاب : ٤٠.