الأمر الذي توهمه أولئك فأنكروا ما وراء الطبيعة ، وفسّروا الحقائق المتعالية بما يسلخها عن شأنها ويعيدها إلى مادة عجماء جامدة. والبحث الصحيح يوجب تفسير بيانات الوحي اللفظية الواردة في جميع الأديان السماوية على أساس ما يعطيه كلّ لفظ منها عرفاً ولغة ، ثمّ يعتمد في أمر المصداق على ما يفسّر به بعض الكلام بعضاً ، ثمّ ينظر هل الأنظار العلمية تنافيها أو تبطلها ، ولو ثبت فيها ـ من خلال ذلك ـ شيء خارج عن المادة وحكمها ، فالطريق إليه ـ نفياً أو إثباتاً ـ طور آخر من البحث غير الذي عكفت عليه العلوم الطبيعية ، إذ لا يمكن بحث ما هو خارج عنها بكلّ مقايسها فيها ، لا نفياً ولا إثباتاً.
وقد أثبتت سائر العلوم المختصّة ببحث ما وراء الطبيعة ، أن حياة النوع الإنساني هي حياة واسعة ممتدّة لا نهاية لها ، ولا تقتصر على الحياة الدنيا ، ولا تنتهي بالموت أبداً ، وأن الإنسان سيعود حتماً إلى عالم آخر ليعيش هناك حياة أخرى دائمة لا موت فيها ، إمّا منعّماً أو معذّباً ، الأمر الذي أكّدته الأديان السماوية بكلّ قوّة وعملت على ترسيخه ، وبيّنت برهانه ودليله ، وقد جعل الله عزّوجلّ فطرة الإنسان دليلاً إضافياً عليه ، ولكن شمس الفطرة كما قد تشرّق على بعض النفوس فتصيّر فجرها ناصعاً ، قد تغرب في نفوس أخرى بعد ضعف العوامل والمستلزمات الأساسية فيها المحافظة على الفطرة وتناميها ، وتحيلها إلى ظلام دامس ، وكون الدين الإلٰهي فطرياً لا ينافي جهل الماديين بحقائقه ، فقد جمع الله عزّوجلّ بين الفطرة وعدم العلم بالدين في قوله تعالى : ( فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ).
وتوقف تصديق الماديين بحقائق الوحي على مشاهدته ، يذكرنا بموقف أبي سفيان وزبانيته من الجاهلية الأولى الذين طالبوا النبي الأعظم بمثل ذلك ، مع أن تبيين الحقائق والمعارف لكلّ شخص من البشر أمر لا يحتمله أي نظام في هذا العالم ، وهكذا الحال في كل إعلام عمومي وتبيين مطلق ، وهو إنما يكون باتصال الخبر إلى بعض الناس من غير واسطة وإلى بعض آخر بالواسطة بتبليغ الحاضر الغائب ، والعالم الجهال ، لا فرق في ذلك بين الوحي وغيره ، وإلّا لصار الأمر فوضى ، هذا مع أن الوحي ـ الذي هو نوع من التكليم الإلٰهي ـ من مختصّات ولوازم النبوّة ، وتتوقّف عليه نبوّة النبي ، وهو سنّة جارية في جميع الأنبياء ، وشرع إلهي فيه هداية الناس إلى سعادة حياتهم في الدين والدنيا ، والله تعالى لا يهمل أمر هداية العباد ؛ لأنّه حكيم مُتقِن ، ومن إتقان الفعل أن يساق إلى غايته. والقرآن الكريم قد بيّن حقيقة الوحي ، وتحدّث عن غاياته وآثاره ، وعصمته في إيصال ما يريده الله تعالى بواسطته إلى أنبيائه ورسله عليهمالسلام ، وهناك الكثير من الحقائق التي كانت غائبة تماماً عن المجتمع المكّي ، ولا يمكن تحصيلها بشيء كسبي ، ولم تكن معروفة لدى العالم بأسره لولا نزول الوحي بها على صدر الحبيب المصطفى صلىاللهعليهوآله ، هذا فضلاً عمّا جاء به من أنباء الغيب المستقبلية التي تحقّقت ـ وهي كثيرة ـ على طبق ما أخبر بها الوحي الإلهي. والكتاب الماثل بين يديك عزيزي القارئ بيّن لنا حقيقة الوحي الإلهي ومصادره وأنواعه في القرآن الكريم بدراسة علمية بكر ، ليضيف بذلك لبنة جديدة إلى صرح الثقافة القرآنية ، جديرة بالثناء والتقدير. والله الهادي إلى سواء السبيل.
مركز الرسالة