كتب عليهم لم تستقرّ أرواحهم فى أجسادهم طرفة عين شوقا إلى الثّواب ، وخوفا من العقاب ، عظم الخالق فى أنفسهم فصغر ما دونه فى أعينهم ، فهم والجنّة كمن قد رآها (١) فهم فيها منعّمون ، وهم والنّار كمن قد رآها ، فهم فيها معذّبون : قلوبهم محزونة ، وشرورهم مأمونة ، وأجسادهم نحيفة (٢) ، وحاجاتهم خفيفة ، وأنفسهم عفيفة ، صبروا أيّاما قصيرة أعقبتهم راحة طويلة.
تجارة مربحة (٣) يسّرها لهم ربّهم ، أرادتهم الدّنيا فلم يريدوها ، وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها. أمّا اللّيل فصافّون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن : يرتّلونه ترتيلا ، يحزنون به أنفسهم ، ويستثيرون دواء دائهم (٤) ، فإذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعا ، وتطلّعت نفوسهم إليها شوقا ، وظنّوا أنّها نصب أعينهم ، وإذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم ، وظنّوا أنّ زفير جهنّم وشهيقها فى أصول آذانهم (٥) ، فهم حانون على أوساطهم ، مفترشون
__________________
(١) أى : هم على يقين من الجنة والنار كيقين من رآهما ، فكأنهم فى نعيم الأولى وعذاب الثانية ، رجاء وخوفا
(٢) نحافة أجسادهم من الفكر فى صلاح دينهم والقيام بما يجب عليهم
(٣) يقال «أربحت التجارة» إذا أفادت ربحا
(٤) استثار الساكن : هيجه ، وقارىء القرآن يستثير به الفكر الماحى للجهل ، فهو دواؤه
(٥) زفير النار : صوت توقدها ، وشهيقها الشديد من زفيرها كأنه تردد البكاء أو نهيق الحمار ، أى : إنهم من كمال يقينهم بالنار يتخيلون صوتها تحت جدران آذانهم ، فهم من شدة الخوف قد حنوا ظهورهم وسلطوا الانحناء على أوساطهم. وفكاك الرقاب : خلاصها.