فشهرته بالدهاء مع تقيّده المعروف بالدين ، وكلاءته حمى الشريعة ، والتزامه البالغ في إعمال الرأي بما يوافق رضا مولاه سبحانه ، وكفِّه نفسه عمّا يخالف ربّه ، تثبت له الأولويّة والتقدّم والبروز بين دهاة العرب ، ولا يعادله من الدهاة الخمسة المشهورين أحدٌ إلاّ عبد الله بن بُديل وذلك لاشتراكهما في المبدأ ، والتزامهما بالدين الحنيف ، والكفِّ عن الهوى ، والوقوف عند مُضلاّت الفتن.
وكلامه لمالك الأشتر ـ مالك وما مالك؟! ـ ينمّ عن غزارة عقله ، وحسن تدبيره ، واستقامة رأيه ، وقوّة إيمانه ، وهو من غُرر الكَلِم ، ودُرر الحِكَم ، رواه شيخ الطائفة في أماليه (١) (ص ٨٦) في حديث طويل فقال : قال الأشتر لعليٍّ عليهالسلام : دعني يا أمير المؤمنين أوقع بهؤلاء الذين يتخلّفون عنك. فقال له : «كفَّ عنّي».
فانصرف الأشتر وهو مغضب! ثمّ إنَّ قيس بن سعد لقي مالكاً في نفر من المهاجرين والأنصار ، فقال : يا مالك كلّما ضاق صدرك بشيء أخرجته ، وكلّما استبطأت أمراً استعجلته ، إنَّ أدب الصبر التسليم ، وأدب العجلة الأناة ، وإنَّ شرّ القول ما ضاهى العيب ، وشرّ الرأي ما ضاهى التهمة ، فإذا ابتليت فاسأل ، وإذا أُمرت فأطع ، ولا تسأل قبل البلاء ، ولا تكلّف قبل أن ينزل الأمر ، فإنَّ في أنفسنا ما في نفسك ، فلا تشقَّ على صاحبك.
ولمّا بويع أمير المؤمنين بلغه أنّ معاوية قد وقف من إظهار البيعة له ، وقال : إن أقرّني على الشام وأعمالي التي ولاّنيها عثمان بايعته. فجاء المغيرة إلى أمير المؤمنين فقال له : يا أمير المؤمنين إنَّ معاوية من قد عرفت ، وقد ولاّه الشام من كان قبلك ، فولّه أنت كيما تتّسق عُرى الأمور ، ثمّ اعزله إن بدا لك.
فقال أمير المؤمنين : «أتضمن لي عمري يا مغيرة فيما بين توليته إلى خلعه؟». قال : لا. قال : «لا يسألني الله عزّ وجلّ عن توليته على رجلين من المسلمين ليلة
__________________
(١) أمالي الطوسي : ص ٧١٧ ح ١٥١٨.