صفحة قلبه أسطرٌ نوريّة من الولاء المحض بسبب تلك الأهازيج ، وهذه الناحية ـ الفارغة اليوم ـ لا تسدّها خطابة أيِّ مفوّهٍ لَسِن ، ولا تلحقه دعاية أيِّ متكلّم ، كما يقصر دون إدراكها السيف والقلم.
وأنت تجد تأثير الشعر الرائق في نفسيّتك فوق أيِّ دعاية وتبليغ ، فأيُّ أحد يتلو ميميّة الفرزدق فلا يكاد أن يطير شوقاً إلى الممدوح وحبّا له؟ أو ينشد هاشميّات الكميت فلا يمتلئ حجاجاً لِلحقّ؟ أو يترنّم بعينيّة الحميري فلا يعلم أنَّ الحقَّ يدور على الممدوح بها؟ أو تلقى عليه تائيّة دعبل فلا يستاء لاضطهاد أهل الحقِّ؟ أو تصكُّ سمعه ميميّة الأمير أبي فراس فلا تقف شعرات جِلدته؟ ثمَّ لا يجد كلَّ عضو منه يخاطب القوم بقوله :
ياباعةَ الخمرِ كُفّوا عن مفاخرِكمْ |
|
لِعُصْبةٍ بيعُهم يوم الهياج دمُ |
وكم وكم لهذه من أشباه ونظائر في شعراء أكابر الشيعة ، وسوف تقف عليها في طيّات أجزاء كتابنا هذا إن شاء الله تعالى.
وبهذه الغاية المهمّة كان الشعر في القرون الأولى مدحاً وهجاءً ورثاءً كالصارم المسلول بيد موالي أئمّة الدين ، وسهماً مغرَقاً في أكباد أعداء الله ، ومجلّة دعاية إلى ولاء آل الله في كلِّ صقع وناحية ، وكانوا ـ صلوات الله عليهم ـ يضحّون دونه بثروة طائلة ، ويبذلون من مال الله للشعراء ما يغنيهم عن التكسّب والاشتغال بغير هذه المهمَّة ، وكانوا يوجّهون الشعراء إلى هذه الناحية ، ويحتفظون بها بكلِّ حول وطول ، ويحرِّضون الناس عليها ، ويُبشِّرونهم عن الله ـ وهم أمناء وحيه ـ بمثل قولهم :
«من قال فينا بيت شعر بنى الله له بيتاً في الجنّة». ويحثّونهم على تعلّم ما قيل فيهم وحفظه ، بمثل قول الصادق الأمين عليهالسلام : «علّموا أولادكم شعر العبدي». وقوله : «ما قال فينا قائلٌ بيت شعر حتى يؤيَّد بروح القُدس» (١).
__________________
(١) عيون أخبار الرضا [١ / ١٥] ، رجال الكشّي : ص ٢٥٤ [٢ / ٧٠٤ رقم ٧٤٨]. (المؤلف)