كلّ هذه آيةٌ محكمةٌ ، تدلّ على اطِّلاعه الغزير في المعالم الدينيّة ، وبرهنة واضحة تثبت طول باعه في العلوم الإلهيّة ، ومثل قيس إذا كان أخذه ، وسماعه ، وروايته ، عن مثل مولانا أمير المؤمنين عليهالسلام ينحسر البيان عن استكناه فضله ، ويقصر التعريف عن درك مداه.
ومن شواهد غزارة علمه : إسلامه الراسخ ، وإيمانه المستقرّ ، وعرفانه بأولياء الأمر بعد نبيِّه ، وتهالكه في ولائهم ، وتفانيه في نصرتهم إلى آخر نفَسٍ لفَظه ، وعدم اكتراثه بلومة أيِّ لائم. وكان هناك قوم حنّاق عليه ، من أهل النفاق وحملة الحقد والضغينة ، يعيِّرونه بولاء العترة الطاهرة ، وعدم إيثاره على دينه عوامل النهمة ، وعدم تأثّره ببواعث الفخفخة أو دواعي الجشع ، وعدم انتظاره منهم في دولتهم لرتبة ولا راتب ، وعدم إرادته منهم على ولائه جزاءً عاجلاً ولا شكوراً ، ويشفُّ عن ذلك ما وقع بينه وبين حسّان بن ثابت ، لمّا عزله أمير المؤمنين عن ولاية مصر ، ورجع إلى المدينة ، فإنَّه حينما قدمها جاءه حسّان شامتاً به ، وكان عثمانيّا ، فقال له : نزعك عليُّ ابن أبي طالب ، وقد قتلت عثمان فبقي عليك الإثم ، ولم يحسن لك الشكر!. فزجره قيس وقال : يا أعمى القلب وأعمى البصر! والله لو لا أن ألقي بين رهطي ورهطك حرباً ، لضربت عنقك ، ثمَّ أخرجه من عنده (١).
ولولا أنّ قيساً مستودع العلوم والمعارف ، ومستقى معالم الدين ، ومعقد جمان الفضيلة ، كما كانت له الشهرة الطائلة في الدهاء والحزم ، لمَا ولاّه أمير المؤمنين عليهالسلام مصر لإدارة شئونها الدينيّة والمدنيّة ، كما فوّض إليه إقامة أمورها السياسيّة والإداريّة والعسكريّة ، ولما كتب إليه بما مرَّ (ص ٧١) من كلامه عليهالسلام : «وعَلّمْ مِن قِبلك ممّا علّمك الله». فإنّ عامل الخليفة هو مرجع تلكم الشؤون كلّها في الوسط الذي استعمل به ، وموئل أمّته في كلّ مشكلة دينيّة ، كما أنّ له إمامة الجمعة والجماعة ، وما كان للخليفة
__________________
(١) تاريخ الطبري : ٥ / ١٣١ [٤ / ٥٥٥ حوادث سنة ٣٦ ه] ، شرح ابن أبي الحديد : ٢ / ٢٥ [٦ / ٦٤ خطبة ٦٧]. (المؤلف)