في شئونه وأطواره ، أنَّه لم يعتنق الدين اعتناقاً ، وإنّما انتحله انتحالاً وهو في الحبشة ، نزل بها مع عمارة بن الوليد لاغتيال جعفر وأصحابه رُسل النبيِّ الأعظم ، تنتهي إليه الأنباء عن أمر الرسالة ، ويبلغه التقدّم والنشور له ، وسمع من النجاشي قوله : أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لتقتله؟ فقال : أيّها الملك أكذلك هو؟ فقال : ويحك يا عمرو أطعني واتّبعه ، فإنّه والله لعلى الحقِّ ، وليظهرنَّ على من خالفه ، كما ظهر موسى على فرعون وجنوده (١).
فَرَاقَهُ التزلّفُ إلى صاحب الرسالة بالتسليم له ، فلم ينكفئ إلى الحجاز إلاّ طمعاً في رتبة ، أو وقوفاً على لُماظة من العيش ، أو فرَقاً من البطش الإلهي بالسلطة النبويّة. فنحن لا نعرفه في غضون هاتيك المُدَد التي كان يداهِن فيها المسلمين ويصانعهم إبقاءً لحياته ، واستدراراً لمعاشه ، إلاّ كما نعرفه يوم كان يهجو رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بقصيدة ذات سبعين بيتاً ، فلعنه صلىاللهعليهوآلهوسلم عدد أبياته.
وهو كما قال أمير المؤمنين : «متى ما كان للفاسقين وليّا ، وللمسلمين عدوّا؟! وهل يشبه إلاّ أمّه التي دفعت به» (٢) وكان كما يأتي عن أمير المؤمنين ، من قوله : «والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة ، ما أسلموا ولكن استسلموا ، وأسرّوا الكفر ، فلمّا وجدوا أعواناً ، رجعوا إلى عداوتهم منّا».
قال ابن أبي الحديد في الشرح (٣) (١ / ١٣٧) : قال شيخنا أبو القاسم البلخي رحمهالله : قول عمرو بن العاص لمعاوية ـ لمّا قال له معاوية : يا أبا عبد الله إنّي لأكره لك أن تتحدّث العرب عنك إنّك إنّما دخلت في هذا الأمر لغرض الدنيا ـ : دعنا عنك. كنايةٌ عن الإلحاد بل تصريحٌ به ، أي : دع هذا الكلام لا أصل له ، فإنَّ اعتقاد الآخرة وإنّها لا تُباع بعرض الدنيا من الخرافات ، وما زال عمرو بن العاص ملحداً ما تردّد قطُّ في
__________________
(١) سيرة ابن هشام : ٣ / ٣١٩ [٣ / ٢٨٩] وغير واحد من كتب السيرة النبويّة والتاريخ. (المؤلف)
(٢) تذكرة خواص الأمّة : ص ٥٦ [ص ٩٧] ، السيرة الحلبيّة : [٣ / ٢٠] وغيرها. (المؤلف)
(٣) شرح نهج البلاغة : ٢ / ٦٥ خطبة ٢٦ ، ٦ / ٣٢١ و ٣٢٥ خطبة ٨٣ ، ٧ / ٥٨ خطبة ٩٢.