قال عبد الله : أكثر إكثارك ، فإنّي أَعلَمُكَ بَطِراً في الرخاء ، جباناً في اللقاء ، عيّابة عند كفاح الأعداء ، ترى أن تقي مهجتك بأن تبدي سوأتك ، أنسيت صفِّين وأنت تدعى إلى النزال؟ فتحيد عن القتال ، خوفاً أن يغمرك رجال لهم أبدان شداد ، وأسنّة حداد ، ينهبون السرح ، ويذلّون العزيز. فقال عمرو : لقد علم معاوية أنَّي شهدت تلك المواطن ، فكنت فيها كمدرة الشوك ، ولقد رأيت أباك في بعض تلك المواطن تخفق أحشاؤه ، وتنقّ أمعاؤه. قال : أما والله لو لقيك أبي في ذلك المقام ، لارتعدت منه فرائصك ، ولم تسلم منه مهجتك ، ولكنَّه قاتل غيرك ، فقُتل دونك. فقال معاوية : ألا تسكت؟! لا أمَّ لك. فقال : يا ابن هند أتقول لي هذا؟ والله لئن شئت لأُعرقنَّ جبينك ، ولأُقيمنّك وبين عينيك وسمٌ يلين له خدعاك ، أبأكثر من الموت تخوّفني؟ فقال معاوية : أَوَتكفّ يا ابن أخي؟ وأمر بإطلاق عبد الله ، فقال عمرو لمعاوية :
أمرتُكَ أمراً حازماً فعصيتَني |
|
وكان من التوفيق قتلُ ابن هاشمِ |
أليس أبوهُ يا معاويةُ الذي |
|
أعانَ عليّا يوم حزِّ الغلاصمِ (١) |
فلم ينثني حتى جرت من دمائنا |
|
بصفِّين أمثالُ البحور الخضارمِ (٢) |
وهذا ابنه والمرءُ يُشبه شيخَهُ (٣) |
|
ويوشك أن تقرع به سنَّ نادمِ |
فقال عبد الله يُجيبه :
معاوِيَ إنَّ المرءَ عَمْراً أبت لهُ |
|
ضغينةُ صدرٍ غِشُّها غير نائمِ |
يرى لك قتلي يا ابن هندٍ وإنّما |
|
يرى ما يرى عمرو ملوك الأعاجمِ |
على أنَّهم لا يقتلُون أسيرَهم |
|
إذا كان منهُ بيعةٌ للمسالمِ |
__________________
(١) جمع غلصمة : اللحم بين الرأس والعنق. يعني : أيام الحرب. (المؤلف)
(٢) الخضرم ـ بالكسر ـ : البحر العظيم الماء. (المؤلف)
(٣) في كامل المبرّد : عيصه ، يعني : أصله. (المؤلف)