ظلمة الليل هارباً ، وقد أقعدوا على كلِّ طريق جماعة ليأخذوه إذا ما خرج في خفية ، فلمّا وصل الكميت إلى الفضاء وأراد أن يسلك طريقاً جاء أسدٌ يمنعه من أن يسري منها ، فسلك جانباً آخر فمنعه منه أيضاً ، كأنَّه أشار إلى الكميت أن يسلك خلفه ، ومضى الأسد في جانب الكميت ، إلى أن أمِن وتخلّص من الأعداء.
وفي معاهد التنصيص (١) (٢ / ٢٨) : قال المستهلّ : أقام الكميت مدّة متوارياً ، حتى إذا أيقن أنَّ الطلب خفَّ عنه خرج ليلاً في جماعة من بني أسد على خوف ووجل ، وفيمن معه صاعد غلامه ، وأخذ الطريق على القطقطانة ، وكان عالماً بالنجوم مهتدياً بها ، فلمّا صار سحيراً صاح بنا : هوِّموا (٢) يا فتيان. فهوّمنا ، وقام فصلّى. قال المستهلّ : فرأينا شخصاً ، فتضعضعت له. فقال : ما لك؟ قلت : أرى شخصاً مقبلاً. فنظر إليه ، فقال : هذا ذئب قد جاء يستطعمكم ، فجاء الذئب فربض ناحيةً ، فأطعمناه يد جزور فتعرّقها ، ثمَّ أهوينا له بإناء فيه ماء فشرب منه ، فارتحلنا ، وجعل الذئب يعوي ، فقال الكميت : ماله ويله ، ألم نطعمه ونسقه؟! وما أعرفني بما يريد ، هو يدلّنا أنّا لسنا على الطريق! تيامنوا يا فتيان. فتيامنّا ، فسكن عواؤه ، فلم نزل نسير حتى جئنا الشام ، فتوارى في بني أسد وبني تميم.
وهذا جانب عظيم من نواحي مكرمات الكميت وفضائله ، لو أُضيف إلى ما يظهر من كلماته المعربة عن نفسيّاته ، ومواقفه الكاشفة عن خلائقه الكريمة ، وما قيل فيه وفي مآثره الجمّة يمثّله بين يدي القارئ بمظاهر روحيّاته ، ونصب عينيه مجالي نفسيّاته ، وأمثلة مكارم أخلاقه ، وما كان يحمله بين جنبيه من العلم ، والفقه ، والأدب ، والإباء ، والشمم ، والحماسة ، والهمّة ، واللباقة ، والفصاحة ، والبلاغة ، والخلق الكامل ، وقوّة القلب ، والدين الخالص ، والتشيّع الصحيح ، والصلاح المحض ، والرشد والسداد ، إلى فضائل تكسبه فوز النشأتين لا تُحصى.
__________________
(١) معاهد التنصيص : ٣ / ٩٨ رقم ١٤٨.
(٢) هَوّم تهويماً : نام قليلاً. (المؤلف)