فلمّا دُعي به ربط الصبيان ثيابهم بثيابه ، فلمّا نظر هشام إليهم اغرورقت عيناه واستعبر ، وهم يقولون : يا أمير المؤمنين استجار بقبر أبينا وقد مات ومات حظّه من الدنيا ، فاجعله هبةً له ولنا ، ولا تفضحنا في من استجار به.
فبكى هشام حتى انتحب ، ثمَّ أقبل على الكميت فقال له : يا كميت أنت القائل :
وإلاّ فقولوا غيرها تتعرّفوا |
|
نواصِيَها تُروى بنا وهي شُزَّب (١) |
فقال : لا والله ، ولا أتان من أُتن الحجاز وحشيّة. فقال الكميت : الحمد لله. قال هشام : نعم الحمد لله ، ما هذا؟
قال الكميت : مبتدئ الحمد ومبتدعه ، الذي خصَّ بالحمد نفسه ، وأمر به ملائكته ، وجعله فاتحة كتابه ، ومنتهى شكره ، وكلام أهل جنّته ، أحمدُ حمدَ مَن علم يقيناً ، وأبصر مستبيناً ، وأشهد له بما شهد لنفسه ، قائماً بالقسط وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمداً عبده العربي ، ورسوله الأمّيّ ، أرسله والناس في هفوات حيرة ، ومُدلهمّات ظلمة ، عند استمرار أبّهة الضلال ، فبلّغ عن الله ما أُمر به ، ونصح لأمّته ، وجاهد في سبيله ، وعبد ربّه حتى أتاه اليقين صلى الله عليه وسلم. ثمّ تكلّم واعتذر عن هجائه بني أميّة ، وأنشد أبياتاً من رائيّته في مدحهم.
فقال له هشام : ويلك يا كميت من زيَّن لك الغواية ، ودلاّك في العماية؟ قال : الذي أخرج أبانا من الجنّة ، وأنساه العهد فلم يجد له عزماً. فقال له : إيهٍ يا كميت ألستَ القائل؟ :
فيا مُوقِداً ناراً لغيرك ضوؤها |
|
ويا حاطباً في غير حبلِك تحطبُ |
فقال : بل أنا القائل :
__________________
(١) تروى : أي ترمى. تشازب القوم على الأمر : أي كان لكلّ واحد منهم حظّ ينتظره. يقال : هم متشازبون. (المؤلف)